للمرة الثالثة في أقل من أربعة عقود، يبدو مصير لبنان متعلقاً بحدث صيداوي، أو معلقاً على مصير صيداوي. مع أن مفارقات كثيرة وتباينات عميقة تفرق بين كل من المرات الثلاث. غير أن عِبراً كثيرة تظل واجبة من جريمة عبرا، ودروساً بليغة يمكن الإفادة منها بعد درس صيدا الثالث، خصوصاً لمن يستخلص ويستوعب من أهل الزعامة الحريرية.
المرة الأولى التي حددت فيها صيدا وصيداويٌ وجهة لبنان، كانت طبعاً تلك اللحظة المأساوية من العام 75. بين 26 شباط، تاريخ إطلاق النار على زعيم صيدا معروف سعد، و6 آذار من العام نفسه، تاريخ وفاته متأثراً بجراحه الغادرة، التقط كل لبنان أنفاسه. ولم يكن الحس الشعبي مخطئاً حيال الخطر المحدق. فصحَّ حدس الناس، وانفجرت البلاد بعد خمسة أسابيع على غياب «القلعة».
المرة الثانية, كانت بعد ثلاثين عاماً كاملة. سنة 2005. الحدث جاء مأساوياً، كما المرة الأولى. مع وقع أضخم، في وسيلة الجريمة، وطريقة الاغتيال، وطبعاً هدفه. صيداوي آخر، اسمه رفيق الحريري، سقط غدراً، لا في صيدا، بل في قلب بيروت، فتحول اغتياله تحويلاً لوجهة تاريخ لبنان.
علماً أن الفوارق كثيرة بين شباط 1975 في صيدا، وشباط 2005 في بيروت. في المرة الأولى، استُهدف «أبو الفقراء» في عاصمة الجنوب. في الثانية كان الهدف رمز السلطة المالية في عاصمة لبنان، لا بل في لبنان كله وبعض محيطه، مع حجم وارتداد لحضوره وغيابه على مستوى عالمي. في المرة الأولى، كانت الدولة موجودة، على اهتزاز. كأنها على شفير البقاء أو الزوال. في المرة الثانية، كانت الدولة في حال مفارقة غريبة: سلطة أمنية كاملة السيطرة بفضل الوصاية السورية، مع غياب كامل لجوهر الدولة، كمبدأ سيادة وانبثاقٍ من إرادة شعب واستقلال مؤسسات وحرية أرض وكيان. في المرة الأولى، كان غيرُ اللبنانيين جاهزين لاستثمار اللحظة. فتحول شهيد صيدا في غضون أسابيع قليلة، موضوع استغلالٍ فلسطيني، دفع المواجهة الكامنة بين اللبنانيين ومن حولهم، إلى انفجار كان يعتمل تحت الرماد منذ نحو عقد سبق.
في المرة الثانية، بدا اللبنانيون في شكل غريب ومفاجئ، أكثر قدرة على الإفادة من دم رفيق الحريري. فالتقوا، وتجمعوا. وساهم كل منهم من موقعه، ورغم تباين الشارعين وازدواجية الساحتين وتناقض الآذارين الاثنين، في بلورة لحظة وطنية جديدة. سنة 75، كان معروف سعد مع الدولة. لكن اغتياله أدى إلى ضربها. فيما سنة 2005، لم يكن رفيق الحريري مؤيداً لأي انقلاب على الوضع الذي كان سائداً. لكن اغتياله أدى إلى إسقاط كل ما كان معه وقبله.
كأن المفارقة ضربت لبنان من صيدا، أو من مصير صيداوي، مرتين. في المرة الأولى سقط لبنان مع صيداوي لم يكن أبداً مع سقوط الوطن والدولة. وفي المرة الثانية، سنحت فرصة للبنان، باغتيال شخص لم يكن يخطط قط لإحداث تلك الفرصة أو استغلالها. في المرة الأولى قسم اللبنانيون دولتهم، باغتيال شخص كان من الجوامع. في المرة الثانية تضافر اللبنانيون وعاد مشروع الدولة، باغتيال شخص ظل طيلة حياته موضع سجال حول شخصه ومشروعه و«دولته» و«وطنه». هكذا ظُلم معروف سعد في موته. وكُرم رفيق الحريري في الموت نفسه. مع الأول، ذهب وجدان مسلم صوب الانقسام. فتقاطع مع انعزال وجدان مسيحي، ومع عقم ثقافة كل الجماعات، وتخلف طبقة سياسيي كل الوطن، حتى الانفجار. مع الثاني، عاد وجدان السنة إلى لبنان، بشكل إرادي طوعي كياني ميثاقي مباشر، من دون وسيط ناصري أو فتحاوي أو سوري... اليوم، يتطلع لبنان إلى ما بعد مصير صيداوي ثالث، هو أحمد الأسير. لا شيء يجمعه بسابقيه، إلا مجرد المصادفات والمكان الجغرافي. فلا هو مناضل مع الفقراء، كما أبو مصطفى، ولا هو امبراطور مالي كما أبو بهاء. كل ما يربط حادثته بالراحلين، أنه قد يسعى بعد اليوم إلى أن يكون شهيداً حياً. وأن مدينة كاملة، لا بل فريقاً سياسياً برمته، أو حتى جماعة لبنانية بغالبيتها، ستكون معنية باتخاذ موقفها من تلك الحادثة. وخصوصاً موقع الزعامة الحريرية، في صيدا، وفي فريق المستقبل، وفي قلب الطائفة السنية. فإذا ما تموضعت هذه الزعامة، كما تموضع الفتحاويون بعد اغتيال معروف سعد، يمكن أن تعيد صيدا ولبنان إلى العام 1975. أما إذا وقفت كما في الأسابيع الأولى التي تلت جريمة 14 شباط 2005، قبل أن يتحكم فيها فيلتمان وإيمييه، فيما كان سفراء آخرون ربما يتحكمون بقوى مقابلة، فيمكن لهذه القيادة أن تستعيد لحظة لبنانية وطنية، في ظروف أشد تعقيداً من سنة 2005. لكن وسط حاجة وطنية أشد إلحاحاً لتموضع ميثاقي كهذا، لا يرى في الحدث الصيداوي، مناسبة لغمز من قناة حزب الله، أو سانحة لوراثة حفنة متطرفين، أو حراجة للموازنة بين حسابات قطر والسعودية وتناقاضات سوريا وما بعدها وأبعد منها. نهاية الأسير، قد تكون فعلاً لحظة تحرر حريرية، فهل من يُقدم؟