أمام الدشم الرملية المتهاوية عند أحد التقاطعات في عبرا الجديدة، التقى رجلان أخذا يتبادلان العناق بحرارة ويهنّئ كلّ منهما الآخر بـ«التحرير». وبرغم أنهما من أصحاب الشقق التي طاولها الخراب في معركة المربع الأمني، إلا أن حديثهما كان مليئاً بالفرح. والسبب أنهما سيستعيدان عهد الحرية الذي بدآ بافتقاده على نحو تدريجي منذ عام 1997، أي منذ تحويل إحدى طبقات مبنى مجاور لهما إلى مصلى بإمامة أحمد الأسير.
يتبادل الرجلان الوعود باستعادة زمن الزيارات المتبادلة والسهرات الترفيهية الطويلة و«الكزدرات» في الأحياء، إذ إن الإجراءات الأمنية التي استحدثها الأسير منذ أشهر، منعت أحدهما من زيارة الثاني الذي تقع شقته داخل المربع الأمني. فهو معروف بانتمائه إلى القوى الوطنية في صيدا وبانتقاده للأسير. منذ انتشار الحراس المسلحين ونصب الحواجز، بدأ يتعرض للمضايقة منهم. تارة تعرضوا له بالضرب وأخرى كسروا سيارته. فيما صديقه القابع تحت حكم الأسير لم يسلم أيضاً، إذ تعرض للتهديد في حال لم يلتزم الصلاة في المسجد ولم يجبر زوجته على ارتداء الحجاب ويمنعها من الخروج بمفردها من البيت أو حتى إلى الشرفة.
حتى مساء أمس، كان الجيش لا يزال يمنع المدنيين من التقدم نحو المربع الأمني والأحياء المحيطة به. أعطى خلال النهار مهلة قصيرة للسكان لتفقد بيوتهم وإحضار أغراضهم، ظهرت الصدمة على الوجوه بسبب الدمار الكبير. فالمشهد دخيل على أحياء الأغنياء والميسورين من أبناء صيدا والجنوب، إذ إن عبرا الجديدة صنعت في الأساس في الستينيات كبديل مرفه وآمن عن مدينة صيدا. عنصر الأمان الذي لازمها خلال الاجتياح الإسرائيلي ومعارك شرقي صيدا، زاد في عدد الراغبين في الاستقرار فيها. في ذروة الحرب والاحتلال اللذين هجّرا سكان صيدا ومحيطها وعبرا الضيعة ودمّرا بيوتها، بقيت عبرا الجديدة «خفيفة نظيفة». في اليومين الماضيين، قصدها الدمار وحده. المباني التي حلم الكثيرون بالسكن فيها بسبب غلاء ثمنها، تحولت إلى صناديق محروقة يحلم أصحابها بتعويض الهيئة العليا للإغاثة. مع ذلك، فضل كثيرون مشاهدة النصف الممتلئ من الكأس. فاعتبروا أن الانقلاب على إمبراطورية الأسير يستأهل دفع أثمان، وإن كانت باهظة. لم يعتبر هؤلاء الأسير يوماً جاراً لهم. في السنوات السابقة، كان تشدده وتحريضه المذهبي «ينقز» السكان المتنوعين مذهبياً ومناطقياً. فكان الكثير من أهل السنة فيهم لا يجذبهم أداء الصلاة في مسجد بلال والاستماع إلى خطبه. إلى أن زاد الشرخ مع الشيخ بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري ثم أحداث 7 أيار، عندما انحاز بشكل حاد ضد حزب الله وأطلق مواقف عالية النبرة. حتى ذلك الحين، كانت عبرا الجديدة تستطيع النأي بنفسها عن أسيرها. لكنها تحولت أسيرته منذ عامين. نشر حراساً مسلحين على المداخل المؤدية إلى المسجد، قبل أن يقفلها بالحواجز الاسمنتية ويستحدث عليها نقاط تفتيش. ثم فرض جدول مواعيد للدخول والخروج والعودة إلى المنازل قبل الليل، وثبّت كاميرات مراقبة عند التقاطعات المحيطة والأحياء التي لا تقابل المسجد على نحو مباشر. وعندما أنشأ الخيمة فوق باحة المسجد الخارجية ووصل بها جانبي الطريق بين بيته ومكتبه، رفع الدشم الرملية وضاعف من الحواجز الاسمنتية ومنع السكان من الدخول بسياراتهم إلى المنطقة وفرض عليهم التفتيش عند الدخول والخروج ومنع التصوير. وأخيراً، ثبت مكبرات الصوت على أسطح المباني البعيدة عن المسجد لإجبار الجميع على الاستماع الى خطبه. حال الطوارئ تلك انعكست على الحياة اليومية للسكان، الذين فضل الكثير منهم تغيير سكنه وعرض شقته للإيجار أو البيع. فيما أحجم من ليس مضطراً إلى الدخول إلى محيط المسجد عن زيارة أقربائه وأصدقائه تحاشياً للتعرض لمضايقات. وفي هذا الإطار، تقلص الإقبال على السكن والاستثمار في عبرا الجديدة وانخفضت أسعار المحال التجارية والشقق. أجواء الحرب عززها تثبيت نقاط وحواجز للجيش قبالة المداخل نحو المسجد والمربع الأمني.
الجرة لم يكسرها كل أهالي عبرا بعد الأسير. حتى الآن، يعبّر البعض بصوت خافت عن حزنهم على النهاية المأسوية لشيخهم الذي يصفونهم بأنه «أسد السنّة، دافع عنهم وتكلم باسمهم ضد الظلم والتهميش الذي يعانونه». هؤلاء يجدون أن الجيش لا يمثلهم ويرددون شعارات الأسير بأن قراره مرهون لحزب الله. كأن خطب الأسير وشتائمه للدولة والجيش والحزب و«أمل» لا تزال تتردد في الأنحاء التي ستفتقد وعيده وتهديده وتحريضه في صلاة الجمعة المقبلة. لا بل إن معركة عبرا أثبتت برأيهم، نظريات الأسير بأن الجيش منحاز ضد أهل السنة، متسائلين عن عدم إقفال الشقق. تماماً كشيخهم، يرفضون التصديق بأن المتضررين متنوعون بين أسيريين وخصومه وبين سنة وشيعة ومسيحيين.