لم يكن إطلاق الرصاص وتوزيع الحلوى في طرابلس، امس، ابتهاجاً بانفجار بئر العبد وردّاً على ما جرى من افعال مماثلة في الضاحية الجنوبية لدى سقوط القصير، امراً بسيطاً وعابراً. بل هو مؤشر خطير على الاحتقان المذهبي الذي بلغ حده الاقصى في بلد يسير بنفسه وتسير به قياداته نحو الهاوية. والأسوأ انه مشهد بات ينذر بالخوف من مجتمع يحتفل بالموت والقتل بتوزيع الحلوى.
ولم يكن انفجار بئر العبد حدثاً مفاجئاً في مسار التطورات الامنية في لبنان، بل كان امراً منتظراً بحسب ما عبّر عنه اكثر من سياسي، من قوى 8 و 14 آذار. فالنموذج البغدادي الذي حصل في الضاحية الجنوبية، في اول ايام شهر رمضان، هو العنوان نفسه الذي طرحه بعض الافرقاء السياسيين من مخاوف جدية من تحويل لبنان ساحة صراع مذهبي على غرار العراق، يوم اغتيال اللواء وسام الحسن، مع فارق الفاعل والضحية.
يوم اغتيال الحسن، لم يكن تورط حزب الله في سوريا بالقدر الذي هو عليه اليوم، ومع ذلك كانت مندوبة الولايات المتحدة في الامم المتحدة سوزان رايس تقول ان «عناصر حزب الله أصبحوا من ضمن آلة القتل السورية». ومع اغتيال الحسن تفلت الشارع السني من قيادة المستقبل، كما تفلّت بعض جمهور المستقبل و14 آذار من كل الخيوط السياسية، فجرت محاولة اقتحام السرايا الحكومية التي باءت بالفشل وانفلت الكلام في حق حزب الله. منذ ذلك التاريخ، في تشرين الاول عام 2012، والاحداث المذهبية والطائفية تتوالى، وترتفع حدة الخطاب المتطرف، لكن سقفها بقي محكوماً بقرار دولي باللاحرب في لبنان وضرورة التمسك بالاستقرار، وتحت سقف هذا القرار تصبح الحروب الصغيرة مسموحة ما دامت ممسوكة امنياً.
هكذا حصلت احداث طرابلس وبعدها عرسال، وبقي الصراع المذهبي على حدته لكن ضمن دائرة مقفلة، مع بقاء الرئيس نجيب ميقاتي محافظاً على التمثيل السني الرسمي الذي يسمح له بالتواصل مع الثنائي الشيعي من جهة ومع الشارع السني ولا سيما في طرابلس من جهة اخرى. ومع سعي الرئيس سعد الحريري من جهة اخرى الى الحفاظ على الحد المعقول من التواصل مع الرئيس نبيه بري، ومع محاولات ضبط الشارع المستقبلي.
اليوم تبدلت الظروف. دخل حزب الله سوريا، وانفرط عقد الحكومة على خلفية سنية ــ شيعية ايضا، وتوالت الفراغات على مستوى الامن والسياسة، وارتفعت نبرة الخطاب السني المذهبي، ولا سيما بعدما وقعت احداث عبرا مع كل التداعيات التي اوقعتها على المستوى الامني والشعبي بين جمهورين وطائفتين. فيما يزداد الضغط الدولي والعربي كي يسحب حزب الله نفسه من سوريا.
وفي موازاة اهتمام دولي فوق العادة برز اخيرا من خلال زيارات عدد من كبار الموفدين الاميركيين والاوروبيين ولقاءاتهم التي حرصوا من خلالها على تأكيد حرصهم على ابقاء مظلة الحماية الدولية فوق لبنان، طرحت اسئلة كثيرة حول دور حزب الله في سوريا وانعكاس هذا التورط في لبنان. وكانت الاجوبة متفاوتة.
ثمة كلام لدى خصوم حزب الله حول سوريا وضرورة انسحابه الفوري منها. برأي هؤلاء، «لم تعد سوريا سوى الرمال المتحركة، التي يغرق فيها الحزب ويغرق معها لبنان». رغم انه حاول، كما قال السيد حسن نصرالله، خوض معركة القصير وغيرها حتى لا تأتي الحرب الى لبنان. لكن انفجار بئر العبد نسف هذا العنوان. امس كان سياسيون في المقلب الآخر للحزب، يتحدثون عن الاحتمالات التي يمكن من خلالها دفع الحزب بأي ثمن الى التراجع عن دوره في سوريا، بدل التشدد اكثر بعد انفجار الضاحية، لأن عنوان التدخل في الحرب السورية سيكون الساتر الذي يتلطى خلفه مستفيدون كثر لإعادة لبنان الى دوامة العنف، والى إشعال الفتنة المذهبية. لم يكن ثمة كلام امس سوى انسحاب حزب الله من سوريا، والتذكير بما حصل قبل اشهر قليلة في اجتماع للجنة الوزارية حول اللاجئين السوريين في القصر الجمهوري برئاسة رئيس الجمهورية وحضور رئيس الحكومة نجيب ميقاتي ووزراء من قوى 8 آذار. حينها قال اللواء اشرف ريفي، وكان لا يزال هو المدير العام لقوى الامن الداخلي، ان «الجهاد في سوريا سيستدعي جهادا في المقابل»، محذرا من «الخطر الأمني المتمثل بدخول حزب الله في الازمة السورية، وبأن ذلك سيدفع الجهاديين لتحويل لبنان ارض جهاد ايضا ضد من يقاتلونهم في سوريا». وفيما كانت اجهزة امنية تحذر من سيارات مفخخة قد تدخل الى لبنان، كانت اجهزة امنية تحذر أيضاً من دخول مجموعات اصولية على خط تفخيخ سيارات في لبنان.
وبقدر ما كان الانفجار متوقعا، في ضوء هذه التحذيرات الامنية، تكثر المخاوف الامنية والسياسية من الا يكون ما حصل سوى مقدمة لمسلسل العنف المتنقل، والذي تخشى معه اكثر من جهة امنية ان يتوسع. وخصوصا بعد ما حصل من اطلاق صواريخ في قضاءي بعبدا وكسروان وتفجيري زحلة والهرمل. والمفارقة ان المخاوف ايضا تنقسم بين رؤيتين، الاولى تذكّر بممارسات التيارات الاصولية في العراق وما فعلته من تفخيخ وتفجير وما يحصل في سوريا على ايدي مجموعات اصولية، وهي ترى في انفجار بئر العبد نموذجا لما قد تحمله هذه التيارات الى لبنان ربطا بالحرب السورية. والثانية لا تزال تقف عند ابواب دمشق. وبحسب احدى شخصيات المستقبل، « من زرع الريح يحصد العاصفة». والخطورة في ذلك ان الحزب، بحسب قراءة هذا الفريق، لم يترك مجالا لقنوات حوار يمكن من خلالها اعادة تعويم التهدئة الداخلية من بابها العريض. وقد يكون اليوم امام مراجعة حقيقية لما قام به منذ 7 أيار وصولا الى التدخل في سوريا.