هي أبخس من أن تسمى جريمة شرف، وأبعد هولاً من اعتبارها جريمة قتل. هكذا يصف محمد الأحمد ما اعتبره عملاً وحشياً تعرض له أخوه ربيع في بلدة بيصور على أيدي شقيقي الفتاة التي تزوجها وفق الأصول القانونية، فـ«استدراجهما شقيقي بالاحتيال، وإقدامهما على قطع عضوه التناسلي، عمل شائن لا يقوم به من يعرف معنى الشرف». ويضيف إنه «لو قتل أخي لدفنّاه، والأيام كفيلة بنسيان الفاجعة، لكن أخي بحكم القتيل الحي، ولا أتصور كيف سيمضي بقية حياته بين الناس، وقد جرى معه ما جرى». لم يكن محمد الأحمد على ما يرام، وهو جالس أمام منزله في بلدة حرار العكارية. فلا يبدو أن للشاب «عزوة» تخفف عنه ثقل الحمل، وبخاصة أنه لاقى أثناء محاولته متابعة حالة أخيه في مستشفى بيصور ما تراءى له سلوكاً مريباً من جانب أهالي البلدة.
يقول محمد إن عشرات الشبان كانوا موزعين أمام المستشفى، وعلى طريقة استدراج أخيه والتنكيل به، أحسّ بأنهم أرادوا استدراجه إلى داخل المستشفى للقيام بأمر ما، فأوحى لهم بأنه موافق على الدخول، وتذرع بالتوجه إلى سائق السيارة التي كانت تقلّه، كي يدفع له أجرة النقل، لكنه ما إن وصل إلى السيارة، وهي لصديق له، حتى لاذ الاثنان بالفرار. لم يكترث الزوار لحديث محمد، ولم يظهروا أي حماسة لرد الضيم عن ابن البلدة، بل راحوا يفسرون الحادثة باعتبارها أمراً «عادياً» يقوم به أتباع الطائفة الدرزية، حتى لو كان الزواج شرعياً. السذاجة تحكم الأحاديث الى درجة أن بعضهم يعتقد بأن «كل الأمور مهما كانت» قد تكون أمراً قابلاً للمساومة، فالمهم أن لا يحدث زواج فعلي من خارج الطائفة. أكثر من ذلك، فقد اعتبر البعض أن رعونة الشاب أو قلة حنكته دفعته الى تصديق حيلة شقيقَي الفتاة، فوقع في الفخ، وحدث ما حدث.
محمد مثل أخيه ربيع يعمل في أحد مطاعم جبل لبنان، لا يبدو أنه مع أسرته المتواضعة يحوز أصواتاً انتخابية تثير اهتمام نواب المنطقة ومرشحيها، ومع ذلك فهو يتريث لأيام معدودة، و«إذا لم يتصل بي أحد منهم فسأبهدلهم جميعاً، وخصوصاً نواب الجرد العكاري»، علماً بأن المعلومات المتوافرة لديه تشير إلى أن النائب هادي حبيش سيدلي بدلوه لدى صعوده إلى عكار في عطلة نهاية الأسبوع، أما النائب معين المرعبي فقد بلغه قوله إنه ليس بصدد «الانشغال بهكذا إشكالات». وينحو محمد باللائمة على مشايخ عكار الذين «أقاموا الدنيا من أجل تحصيل معاشاتهم».
لم تكن بلدة حرار تتوقع المرور باختبار من هذا النوع. فعروس الجرد العكاري التي تقع على ارتفاع ألف متر عن سطح البحر، كانت تتهيأ لصيف حافل بالمهرجانات بعد انتهاء شهر رمضان، بالنظر إلى ما تختص به من انتشار للمطاعم والمقاهي. بلدة حرار التي تتوسط بلدات ساحل القيطع (ببنين وبرقايل) وجرده (مشمش وفنيدق)، حافظت على تنوع اجتماعي وسياسي يستمد جذوره من قساوة الحياة في الجرد الأعلى، من دون أن تسحبها كثيراً متغيرات الساحل، وهو ما يعكس حضور نخب لا تزال تحنّ إلى سبعينيات القرن الماضي وما حفلت به من تنوع حزبي، امتد ليشمل مشاركات فاعلة في جبهة المقاومة الوطنية. يقول أحد أبناء ذلك الرعيل، أبو أيسر عنتر، مستهجناً ما جرى في بلدة بيصور التي تعرّف إلى «قيادات وطنية كبيرة فيها» ان تصريح رئيس بلدية بيصور حول «دخول الشاب من الشباك» لا يمثل ثقافة بيصور التي «كنا نعرفها»، وأنه يتوقع على سبيل المثال من الوزير غازي العريضي (ابن بيصور) أن يكون له موقف يرد به الاعتبار لأبناء عكار، وخصوصاً أن عكار أنصفت الوزير العريضي وشكرته على ما قدمته وزارة الأشغال من خدمات في عهده. ويضيف عنتر «إننا أبناء بيئة محافظة، لها عاداتها وتقاليدها، لكننا نعرف أن زمن جرائم الشرف والأخذ بالثأر ولى»، ويذكّر أبناء الجبل بأنهم أكثر من يعرفون كيف تدوّر الزوايا، وكيف يمكن أن «نغض الطرف قليلاً عما يسمى ثوابت» يقول ذلك، غامزاً من قناة الزعامة الدرزية ممثلة بوليد جنبلاط الذي أتقن «فنون تبديل المواقف». والجدير بالذكر أن أبا أيسر كان قد فقد ابنته منذ سنة ونيف، واختفى خبرها لأسابيع، ثم تبين لاحقاً أنها تزوجت. وفي هذه الأثناء، عقد الرجل أكثر من مقابلة متلفزة، تعمد في خلالها إفساح المجال لعودة ابنته إلى حضن العائلة مهما كان سبب غيابها، ويختم بقوله «فعلت ذلك رغم أن لنا في جرود عكار تقاليدنا وعاداتنا، كما هي الحال لدى إخواننا في الطائفة الدرزية».
حتى عصر أمس، كان رئيس بلدية حرار خالد اليوسف يتابع أحوال ربيع ميدانياً في مستشفى رفيق الحريري الحكومي في بيروت، وكان أبناء البلدة يتهيأون لاعتصام احتجاجي في ساحة حرار بعيد صلاة التراويح، ويتداولون بإجراءات أخرى بانتظار ما ستؤول إليه مجريات التحقيق في القضية.
اللافت أن الجريمة الموصوفة جاءت بعد أسبوع ونيف على حادثة تعنيف أسري قتلت في سياقها رولا يعقوب في بلدة حلبا. والحادثة أثارت استياء أهالي حلبا، فرفعوا الصوت عالياً أمام ما اعتبروه محاولة لتمييع القضية، عبر الحديث عن السماح للزوج بالمشاركة في دفن رولا قبل أن يفصل القضاء في الأبعاد الجرمية للعنف الذي قام به. وكان القاضي المكلف بمتابعة القضية قد التقى نهار الاثنين الماضي الأطباء الشرعيين الذين كشفوا على الضحية، وسرت معلومات عن أن الاتجاه هو نحو اعتبار الوفاة ناجمة عن انفجار أحد شرايين الدماغ، بسبب تشوه خلقي، لا علاقة له بما لوحظ من كدمات ناجمة عن «التعرض للضرب بآلة حادة». لذلك تقيم منظمات وناشطون من المجتمع المدني نهار الأحد المقبل تحركاً في ساحة حلبا، استنكاراً للحادثة وللمطالبة بإقرار قانون حماية النساء من العنف الأسري.