في بيصور الآن شيء من كترمايا. الجرائم الجماعيّة تنبعث منها دائماً رائحة ذعر فريد. بماذا يمكن أن يشعر المرء لدى استعادة لحظة العنف والهمجيّة التي تفلت فيها الأهواء والغرائز من عقالها، ولا يعود العقل هو المرجع والحكم؟ العنف لإحقاق الحق، والهمجيّة لاسترجاع الكرامة المسلوبة. في تلك المحكمة الميدانيّة قوانين الجماعة أقوى من منطق العدالة، وروح الأديان، والقيم الإنسانيّة السامية.
لعلّها نسخة معاصرة من ذلك الطقس الوثني الذي يقضي بأن تفرّغ الجماعة المحمومة حقدها في كبش فداء من أجل استعادة طهارتها. كبش الفداء هنا إنسان ارتكب «المحظور»، وتجرّأ على قوانين الجماعة، فاستدرج عن سابق تخطيط إلى «المذبح» الإغريقي القديم لينال عقابه. أو بالأحرى كبش الفداء هنا اثنان: ربيع على فراش المستشفى، وقد أفلت من الموت، لكنّه فقد ذكورته («شرفه»؟)، وردينة «جالبة العار»، زوجته التي لا نعرف مصيرها لحظة كتابة هذه السطور.
في بيصور الآن شيء من لبنان. بإماراته ومربّعاته، بطوائفه ومذاهبه، بعشائره وعائلاته. بجماعاته التي لم تستقم في وطن، ولم تنتظم في دولة قانون منذ سبعين سنة هي عمر الدولة الحديثة. الجرائم الجماعيّة تقول ما هو أبعد وأشمل من الوقائع المباشرة. تفضح مرضاً فتاكاً يعشّش في جسد المجتمع. على التلفزيون، بدأ رئيس بلديّة بيصور بإدانة الضحيّة لأنّها «دخلت من النافذة»، قبل أن يستنكر الفعل الهمجي باعتدال شديد، كمن يشجب سرقة مرطبان عسل. من يقول له إن كل عشّاق العالم «يدخلون من النوافذ» منذ أيّام «روميو وجولييت»؟ من يقول له إننا في القرن الحادي والعشرين، وإن الحب بين رجل وامرأة من طائفتين مختلفتين، ليس جالباً للعار، ولا يعاقب بالخصي وبتر الأعضاء التناسليّة؟ من الظلم طبعاً أن نؤبلس منطقة معيّنة، من الخطأ أن نشير بإصبع الاتهام إلى فئة دون سواها: النظام السياسي هو المسؤول الحقيقي عن تراجيديا بيصور، برموزه وتشريعاته ومؤسساته، من البرلمان إلى المدرسة. نظام مجبول بالتخلّف، يقوم على بنى إقطاعيّة قروسطيّة، ويعتاش منها لحماية امتيازاته وتأمين ديمومته وامتيازاته. في بلد آخر، كان لهذه الجريمة أن تهزّ أركان الجمهوريّة. في لبنان الديموقراطيّة كذبة كبيرة، والحريّة مزحة سمجة، والتعدديّة فوضى، والوحدة الوطنيّة فولكلور، والتنوير فجور، والحضارة ذكوريّة، وحقوق الإنسان سراب، والعدالة «ميثاق» يوازن بين مصالح الجماعات المتناحرة. في لبنان التغيير ممنوع، والمجتمع المدني هرطقة، والعلمانيّة جريمة، والزواج المدني «حرام». لقد فشلنا في بناء الدولة الحديثة التي لا خلاص لكل مآسينا إلا بها. اليوم نتسقّط أخبار ردينة، ونتأمّل وجه ربيع في لقطة مقرّبة على التلفزيون، ونسأل: هل نحن حقّاً شعب يستحقّ الحياة؟

يمكنكم متابعة بيار أبي صعب عبر تويتر | PierreABISAAB@