الصورة كالعادة تقول كل شيء. جثث وحرائق وأنقاض وحطام وبقايا وبرك دم وجرحى ووجوه مفجوعة وفراغ ودخان وصمت. إنّه صمت ما بعد المعركة. نحن في القاهرة، بعيداً في المكان والزمان عن مربّع عبرا في الجنوب اللبناني بعد «سقوطه». بمعزل عن كل ما يحمل في وجدان اللبنانيين من ذكريات مؤلمة، فإن «مربّع» الأسير «الفارّ» لا يمثّل بعد سقوطه، شيئاً يذكر بالمقارنة مع الميدانين «المليونيين» ـــ «النهضة» و«رابعة العدويّة» ـــ اللذين احتضنا أنصار مرسي «المعزول» منذ «انقلاب» الثالث من يوليو.
الخطاب نفسه ربّما يجمع مقاتلي «الصحوة» المقلوبة هنا وهناك، المصالح نفسها، الرعاية المشتركة من قبل أنظمة الانحطاط والرجعيّة والتخلّف الحضاري، وكذلك فولكلور التديّن والنظرة المبتورة للعالم، والخطاب الغيبي الذي يبحث عن حلول في الأمكنة الخطأ، والتأويل الماضوي للتراث الديني والروحي العريق، والمشروع الانحطاطي الجاهلي الذي يخيّم على المجتمع… ماذا بعد؟ قد تجمع بين المشهدين أيضاً الهزيمة النكراء نفسها، وما يرافقها ويتلوها من يأس وقهر وعنف وبكائيّات ونظريّات مؤامرة وشكوى من الظلم والجور وغياب العدالة… هناك أيضاً قاسم مشترك بين الكتلتين المنكفئتين الصغرى جدّاً في لبنان، والعملاقة رغم أنّ أغلبيّة الشعب لفظتها، في مصر. هذا القاسم المشترك هو النزعة الانتحاريّة نفسها لجماعات تجرّ معها مجتمعاً كاملاً إلى الهاوية…
لكن المقارنة تنتهي هنا. إذا كان للأسير من يبكيه في وطن الأرز والبخور ويتاجر به ويبشّر بعودته، ما تسمح به التركيبة الهشّة للمجتمع اللبناني المنخور والمتصدّع، فإن مصر فهمت أمس، ومعها العالم، أن زمن مرسي ولّى إلى غير رجعة. نحن في القاهرة بوصلة العرب، وساحة المواجهات الفكريّة والسياسيّة العظمى التي تحدد مستقبل الأمّة العربيّة. والأحداث الدامية التي كانت عاصمة النهضة العربيّة مسرحاً لها يوم أمس، وقد وصفت عن حقّ بـ«المجزرة»، وتميّزت ببطش العسكر وجنون الإسلاميين الانتحاري على السواء، مع تفاعلات مأسويّة في مختلف أقاليم مصر، تلك الأحداث قد تكون أعلنت موت مشروع الاسلام السياسي في الحكم على مستوى العالم العربي كلّه، لأمد لن يكون قصيراً.
سيعود الإخوان إلى العمل السرّي على الأرجح، بعد تشنّجات وردود فعل راديكاليّة قد تؤدّي إلى العنف وإلى تفجيرات واغتيالات تطاول اعلاميين ومناضلين ومثقّفين ومفكّرين، في نسخة مصغّرة جدّاً من العشريّة السوداء في الجزائر، ثم ينتظمون في المعادلة الجديدة. فماذا عن الفريق المنتصر؟ وهل سيصون تركة ٢٥ يناير ومكتسبات الديموقراطيّة، كما أوحت الاحتفاليّة الطقوسيّة لإعلان العزل على التلفزيون، بحضور كل رموز الأمّة المجتمعة حول السيسي في الثالث من يوليو؟ وكيف سيداري الجماهير التي نزلت إلى الشارع لطرد مرسي، وقيل حينذاك إن القوّات المسلّحة تحرّك خيوطها بتواطؤ مع دول خارجيّة، حسب سيناريوهات تحتقر ارادة الشعوب؟
نعم، مشهد ميدان رابعة العدويّة يشبه ساحة معركة بعد انتهاء الحرب، ما يفترض وجود جيش مهزوم وآخر منتصر. لا خلاف حول الطرف المهزوم. الإخوان المسلمون يعيشون في هذه اللحظات ما يسمّونه «المحنة الرابعة»، بعد اغتيال النقراشي عام 1949، وما واجهوه عام 1954 على أثر محاولة اغتيال عبد الناصر في المنشية بتواطؤ مع الاستعمار الانكليزي، وأخيراً إعدام سيد قطب عام 1964. وفي عام 2013 جاء زمن الانتحار الشعبي، والتفريط السريع بالرصيد الذي اكتسبوه خلال سنوات القمع الطويلة. بعد اداء كارثي في الحكم، وعجز عن ادارة الأزمات، ونزعة إلى الاستئثار بالسلطة والاستيلاء على المؤسسات واختراق بنى الدولة الحقيقيّة شبه الوحيدة في العالم العربي، قالوا لملايين ٣٠ يونيو: نحن أو الخراب. أرادوا الانتحار بنفسهم وبكل مكتسبات «ثورة ٢٥ يناير» التي ستغرق عمليّة استعادة مكتسباتها وديناميّتها، وقتاً طويلاً أيضاً.
لكن ماذا يمكن أن يقدّم العسكر لمصر؟ أيّة ضمانات للديموقراطيّة والحريّة وترسيخ الدولة المدنيّة وتداول السلطة على أساس الشرعيّة والقانون…؟ يتنفّس الكثير من المصريين، ومعهم العرب، الصعداء اليوم. لقد تخلّصوا من الكابوس، لكن بأي ثمن؟ ٢٨٠ قتيلاً يوم أمس حسب أرقام وزارة الصحّة، موزّعين على الميدانين بينهم ٤٣ من رجال السلطة، والأرجح أن العدد الحقيقي أكبر من ذلك. جرح غائر في الوجدان الشعبي، وخوف حقيقي على الحريّات وعلى الاستقرار، وعلى الديموقراطيّة، انفلات الحقد الطائفي، وهيمنة شبح الحرب الأهليّة… بدورها الحكومات الغربيّة تخفي رضاها اليوم بخبث، فقد تخلّصت من حليف مربك ورهانات فاشلة، من دون أن يتعرّض نفوذها للخطر. دعونا لا نتوقّف كثيراً عند دجل وزير الخارجيّة الفرنسي لوران فابيوس، أو عند التحفظات الفولكلوريّة للولايات المتحدة التي تفتعل الزعل، وتلوّح بإلغاء مناورات «النجم الساطع» العسكرية مع مصر بسبب أحداث العنف التي أخذت مصر، كما كان يتوقّع الجميع من أسابيع طويلة، إلى حمّام الدم للأسف.
«ما تعيشه مصر الآن هو لحظة عظيمة، وكل اللحظات العظيمة في حياة أي شعب تتضمن الكثير من الصعاب»، صرّح قبل أيّام على احدى المحطّات المصريّة، رئيس «التيار الشعبي» حمدين صباحي. لكن ربّما تطغى الصعاب على تلك اللحظة العظيمة. لا تبريرات رئيس الوزراء المصري الموقت حازم الببلاوي في حديثه إلى الأمّة مساء أمس مقنعة تماماً، ولا خطاب جزء من المجتمع المدني يتجاوز حدود الأمنيات، إذ يعتبر أن الأمور عادت إلى سياقها، وأن اندحار الاخوان جزء من المسار الطبيعي، باعتبارهم جزءاً من نظام مبارك لا بد من أن يسقط معه. ويؤكّد أن الشعب المصري الذي نزل في ٣٠ يونيو بعد أن تسيّس وذاق طعم الحريّة وأمسك بزمام المبادرة واكتسب وعياً مدنيّاً، بوسعه أن ينزل مجدداً في أي وقت ضدّ العسكر…
ليس الأمر مؤكّداً! لم نسمع في قيادات الثورة وهيئة الإنقاذ صوتاً واحداً يقول إن الجيش ارتكب خطأً فادحاً في ممارساته القمعيّة لإخلاء ساحتي الاعتصام. وحدها استقالة نوبل السلام الدكتور البرادعي نائب الرئيس الموقت عدلي منصور، تنمّ عن وعي وبعد نظر. لقد رفض الوقوف شاهد زور على مجزرة ارتكبت في النهاية بحق مصريين. هل يعطيه ذلك مؤهلات اضافيّة لخوض المعركة الانتخابيّة المقبلة لرئاسة مصر؟ هل سيتبارز مع مرشّح المؤسسة العسكريّة، السيسي أو ربّما رئيس المخابرات السابق مراد موافي؟ لسنا الآن في هذه المرحلة، لا بد من عودة الاستقرار الأمني، واستعادة الاقتصاد المنهار أنفاسه، وانتهاء حالة الحصار، وتحديد موعد للانتخابات المقبلة. في انتظار ذلك تخلّص المصريّون ربّما من الإخوان، فهل يبقون طويلاً تحت رحمة العسكر؟

يمكنكم متابعة بيار أبي صعب عبر تويتر | PierreABISAAB@