صحف كثيرة برئيس تحرير واحد
لا يرتاح الرئيس رجب طيب أردوغان من مقارعة خصومه. تفرّغ على حلبة نِزال اختار مكانها وحكّامها وراح يستدعي الخصوم المنهكين الواحد تلوَ الآخر.
بعد جهازي القضاء والشرطة، انكبّ السلطان «المَدَني» على منازلة الصحافيين والإعلاميين. كل رأي آخر في الدولة «ذات المعايير الأوروبية»، مرحّب به... خارج إطار «التآمر على الدولة».
مفهوم «التآمر» يولي الرئيس شرحه للقضاء (المُعيّن). أمّا السجن والتحقيق والإذلال فللأمن (المروّض). هو حامي قيَم الجمهورية، كما يراها حزبه الحاكم منذ عام 2003.
عشرات الصحافيين المطرودين و«المروّضين» وعدد مماثل من الصحف والقنوات التلفزيونية والمواقع الاعلامية أُقفلت، أو اكتَشَفت بين ليلة وضحاها أنّ نشاط الرئيس يُدرج «حُكماً» في مطلع النشرة... وعلى الصفحة الأولى.
تعدّدت مواهب الرجل من رئيس بلدية إلى رئيس حكومة إلى رئيس الحزب، فرئيس للجمهورية. ثمّ لعب دور القاضي والضابط، قبل أن يقرّر تنصيب نفسه رئيسَ تحرير.
الناظم لحياة «الأمة التركية» من ديار بكر إلى إزمير ومن تركستان الشرقية (في الصين) إلى آخر «تجمّع تركماني» في جزيرة القرم، يَعرف كيف ينساب بين الأبواب الموصدة بمفتاح واحد وضعه في جيبه. تركة «الكماليين» تكاد تتبخّر، من حراسّها في الجيش إلى وزارة التربية مروراً بإمبراطورية الإعلام.
عام 1996، وفي خضمّ أزمة حزب «الرفاه»، ومن خلفه قائده نجم الدين أربكان، كان الإعلام يشكّل أرقاً يومياً لرئيس الوزراء الإسلامي. النائب عن الحزب أورهان أصيل تُرك صرّح حينها بأنّ «الحكومة ستمضي في تشريع قانون تنظيم الصحافة، ولن نتركه لأن ثلاثة محتكرين للإعلام لا يريدون ذلك». حينها، كانت الصحافة مقسومة في ظلّ صعود للإعلام «الإسلامي» المقرّب من «الرفاه» مقابل «الكارتلات» الإعلامية المحسوبة على الجيش و«الجمهوريين».
هذه «الكارتلات» عملت يومها على إسقاط رئيس الوزراء أربكان، وكانت افتتاحياتها وعواميدها الرئيسية تحفل بنقد الحكومة ورئيسها.
ثم جاءت فضيحة «سوسورلك» (اكتُشف إثر حادث سيْر في منطقة سوسورلك في إسطنبول أنّ السيارة التي تعرضت للحادث كانت لأحد الضباط في جهاز الاستخبارات وبرفقته تاجر مخدرات مطلوب للعدالة. واتضح أن العلاقة بين الرجلين تقوم على تكليف الأول للثاني بتصفية مواطنين يُشتبه في تعاطفهم مع حزب العمال الكردستاني) ليشنّ هذا الإعلام حملة ضخمة على الحزب الحاكم.
عبد الله غول، والعشرات غيره، يمثّلون دور المشاهد الصامت

قال وزير الدولة آنذاك، عبد الله غول: «إن بعض الجهات التي لا يسرّها مشاركة الرفاه في الحكم تسعى لانتقاد كل خطوة يخطوها، وإن كانت تلك الخطوة ضمن دائرة مصالح تلك الجهات...».
عبد الله غول اليوم، والعشرات غيره، يمثّلون دور المشاهد الصامت عن «جرائم» أردوغان في حقّ الإعلام. الانقسام في التسعينيات أضحى رجحاناً لـ«جماعة» أردوغان في الفترة الأولى من حكم حزبه، ليقترب من «ابتلاع» الجميع في الحاضر.
في الأول من أيلول الماضي، عنونت صحيفة «سوزجو» Sozcu غلافها: «صحيفتنا صامتة... لذا فإن تركيا أيضاً صامتة». مواقع كتّاب الأعمدة تُركت بيضاء. كانت الصحيفة تتعرّض لاتهامات من المحاكم بإهانة الرئيس والتعرّض لأفراد عائلته.
أعمدة «سوزجو» الفارغة، استطاع «طاقم» أردوغان الإعلامي ملأه بما يرضيه في حالات أخرى. في تشرين الأول الماضي، قضت محكمة في أنقرة بوضع المجموعة الإعلامية التابعة لمجموعة «كوذا ابيك» تحت الحراسة الإدارية، ثم سلّمت الإدارة لـ «أوصياء» معيّنين من قبل الحكومة.
هؤلاء الأوصياء وضعوا «بصمتهم» التحريرية على صحيفتي «بوغون» BUGÜN و«ميلييت» MİLLİYET لتصبحا ناطقتين بلسان الحكومة (إضافة إلى محطتي التلفزيون «بوغون» و«كانال ترك» وراديو «كانال ترك»).
انهار توزيع الصحيفتين، لتصبح مبيعات «بوغون»، مثلاً، من 104 آلاف نسخة يومياً إلى 5600 نسخة (حسب وكالة «فرانس برس»).
هذه عيّنة بسيطة من «معركة» الحزب الحاكم مع الإعلام في بلاده. ولعلّ الوصاية المفروضة قبل أيام على صحيفة «زمان» (توزّع مليون نسخة يومياً) الأوسع انتشاراً في تركيا، تشكّل ضربة قاضية لعمل الإعلام في بلد «ديموقراطي» تصدر فيه عشرات الصحف والقنوات التلفزيونية.
الداعية الإسلامي فتح الله غولن، حامل لواء كسر سطوة الجيش والأتاتوركيين على البلاد عبر إمبراطوريته الإعلامية والتعليمية والرافعة للأحزاب الإسلامية، أضحى الهدف. مجموعة «زمان» الإعلامية (التي يموّلها غولن) تُزعج حليفه السابق. في تركيا اليوم، الإزعاج يعني اقتحام مباني الصحف والقنوات... ثم تعيين أوصياء وإصدار بـ«حلّة» جديدة. صورة الرئيس يفتتح جسراً جديداً مناسباً «مهنياً» لصحيفة تصدر في تركيا 2016.
برمز الابتسامة، يجيب أحد الناشطين الأتراك عن سؤال: «ماذا بعد إقفال صحيفة زمان؟». نسأل مجدداً، عبر محادثة على تطبيق «واتساب»، عن وضع صحف أخرى صغيرة «لا تزال تعاند»، ليأتي الجواب من الصديق المتابع: «لا أنت تسأل ولا أنا أجيب». أهلاً بكم في بلاد «الرقيب».