طرابلس - غابت شمس طرابلس قبل أن يستقر عدّاد الضحايا على رقم محدد. كان الموت يزحف إلى طرابس رويداً رويداً، لهجت ألسنة الناس بالحديث عن انفلات كبير سيحدث بعيد شهر رمضان. كانت العيون مشدودة إلى محاور القتال التقليدية.
أقام فقراء التبانة، ومعهم من استدرجوا إلى بيئة تناسب بؤسهم، نوعاً من إعادة انتشار، فامتدت بسطات خضرهم إلى دوار أبو علي، علهم يسدّون بعض عوزهم من العابرين إلى بقية مدينة. لم يحسبوا أن الموت سيلاحقهم. لم يكن مسجد التقوى مقصداً للمصلين فقط، بل كان الرصيف الممتد أمام المسجد ملجأ يأوي إليه المتسوّلون عديمو الحيلة، يستجدون تليين قلوب المحسنين. بعضهم أودى به الانفجار، وبعضهم الآخر سيزاحم غيره في محلة أخرى من مدينة صارت ملأى بالمعوزين.
الموت هنا بات سيرة يومية، مصيبة تزيحها كارثة. قبل انفجاري المسجدين بيوم زار القتل محلة الزاهرية. قتيلان صدفة، والثالث حسام الموري ضحية إعادة ترسيم البلد مذهبياً أو سياسياً. قتل لأن آل الموري في الزاهرية، كما آل النشار في باب الرمل، من اتجاه سياسي آخر. لم يتسنّ لآل الموري إكمال مراسم العزاء. ففيما كان أهالي الفقيد في خيمة العزاء وسط الشارع العام، معززين بحماية عناصر الجيش، وباحترام الناس لهيبة الموت، هزّ انفجاران أرجاء المدينة، ارتفعت أعمدة الدخان، علت أصوات صفارات الإسعاف، ولف الرصاص الشوارع. خلا المكان من المعزين، حمل أهالي الفقيد أحزانهم وغادروا، فقد أحدثت الجريمة الكبرى مفاعيلها، والموت الجماعي خنق صوت العقل وأطلق العنان للغرائز.
قبالة مسجد السلام، حيث كانت المنطقة لا تزال تتسع لطيف أوسع من الاصطفافات الخانقة، وجد فيها الهاربون من الأحياء القريبة من محاور القتال، بما في ذلك مركز المدينة التاريخي في ساحة التل، وبمن في ذلك الزوار الذين لم تفلح أحداث طرابلس الدامية في التأثير بتعلقهم بها، وجدوا أنفسهم في مواجهة دوي الانفجار المرعب. يروي أحدهم كيف أن تفجير مسجد التقوى لم يلفت نظره، فظل يدردش مع صديق له في مطعم قريب من مسجد السلام، ظن رواد المطعم الانفجار مجرد قنبلة صوتية، أو إينرغا، أو أي شيء «عادي» . لكن انفجار مسجد السلام لم يترك لهم مجالاً للتفكير، هرعوا طالبين النجاة بعد أن ملأ حطام الزجاج أرجاء المطعم.
لم يتعرض الزوار لهول الكارثة التي حلت بالمصلين في مسجد السلام، لم يشاهدوا جثث القتلى معلقة بين السيارات المحترقة، لكن لحظات قليلة خلال عودتهم إلى بيوتهم في زغرتا أو الكورة، أيقظت فيهم ذكريات الحرب الأهلية. جموع من الغاضبين، انتشار مسلح، حواجز متنقلة، استعر خوفهم وهم يفكرون في أقصر الطرق وأقلها خطراً للخروج من طرابلس. وربما سيفكر هؤلاء كثيراً قبل أن يعودوا إليها.