في الفان المتّجه بأقصى سرعته الى عاصمة الشمال، بعيد وقوع الانفجارين الإرهابيين في مسجدي السلام والتقوى، وعلى وقع الأخبار التي تبثها «إذاعة الشرق» التابعة لحزب المستقبل، كانت وجوه الركاب مكفهرة. يتلو المذيع القديم بيان سعد الحريري تعليقاً على التفجير، فتسمع راكباً يشتم بصوت عال: «عليك وعلى هالهيئة»!
ما هذا؟ هل يمكن أن يكون الشاب من جبل محسن؟ وهل يجرؤ على قول هذا الكلام؟ ينظر السائق إليه في المرآة بتأمل من استاء قليلاً، ولكنه لن يفتعل مشكلاً مع راكب. سرعان ما يثني على كلامه الراكب الضئيل الجسد الى جانبي «عاملّي فيها زعيم... عم بيموتوا العالم وهوّي بفرنسا».
يرين صمت على الركاب. سيدة تجلس في المقعد الأمامي قالت شيئاً أثار غضب الرجل الذي تكلم بداية، وهو موظف «سيكوريتي» في بيروت، يصيح بها «ما تقولي هيك ... العالم ما في أطيب منها بطرابلس، الزعما هنّي الكلاب اختي ... شو بدو يعمل الفقير؟ بيعطوه مصاري وبيفلتوه. ما الحق عليه!»، تجيبه بشيء لم أفهمه، فيردّ وقد ثار غضبه أكثر «مين سعد المصري؟ ... ما تقولي عالم. أحلى عالم بطرابلس». هذه المرة تلتفت السيدة الى الخلف وهي تصيح «شو فقير ما فقير؟ هيّانا : أخي وأبي وزوجي ما عم يلاقوا شغل من سنتين، وأنا وأختي معيّشين البيت، بس زوجي ما عم يتزعرن. حاج تقللي طيبين. يلعن أبوهم كلاب مرمروا عيشتنا». يحتار غضباً فيلتفت إليّ قائلاً الشيء الغريب التالي «يا ست ... حدا بيردّ ع حرمة؟» ثم يتوجه إليها «طيب متل ما بدك ... بأمرك أنا».
أحد الركاب ينادي السائق «وطّيلنا الراديو شوي بعد إذنك»، ثم يرد على اتصال هاتفي «الحمد الله ع السلامة.. شو؟ خبرني؟ في حدا من جماعتنا؟ ... إيه؟ ... ومين كمان؟ كتير معوّر يعني ... لا إله إلا الله».
الراكب خلفي كان الأكثر تلقياً للاتصالات «ما فلّلوكم؟ إيه قلّو لمعلمك بدّك تروح لأنو الطرقات منّا آمنة ... مبلى بيفلّلك ... إنت قلّو بس». ثم اتصال آخر «إيه عمر وأخوه محمود وأبوه كانوا بالتقوى ... ما عرفت. راح لنا شهيد وجريحين ... اسا ما بعرف ما وصلت. لما بوصل بحاكيك ... انت علّملي».
يعيد السائق رفع صوت الراديو، فيتناهى صوت النائب خالد الضاهر الذي سرعان ما يتهم حزب الله بالتفجير. يسأله المذيع «لكن سعد الحريري قال ...» فيقاطعه قائلاً «ما في تناقض بين كلامي وكلامو ...». لم أعد أستطيع سماع ما تبقّى، فقد انهالت الشتائم من العيار الثقيل على الضاهر. لم أعد أفهم شيئاً! من يحكم الشارع الطرابلسي اليوم؟
«لوين واصل يا معلم؟» نسأل السائق باقترابنا من المدينة المنكوبة. فيقول إنه سيتوقف عند ساحة التل ولن يكمل الى حلبا لأنه لا يعرف ما هو الوضع على «دوار أبو علي» حيث انفجار مسجد التقوى.
على البحصاص، بضعة جنود يقفون الى جانب الطريق. يطل السائق برأسه ويسأل أحدهم بود، ذلك أن أبناء المنطقة إما يتوظفون في السلك أو في الجيش أو يشترون فاناً ليعملوا عليه، هكذا تجد أن معظمهم يعرف الجنود أو الدرك. يسأل السائق الجندي: «شو ؟ في شي؟» يبتسم الجندي ويرد ساخراً «لأ ... ما في شي! سلامتك».
ساحة عبد الحميد كرامي خالية. أين باصات طرابلس ــــ بيروت؟ أين باعة الكعك والقهوة والعصير؟ لا أحد هنا. أنزل من الفان وأتوجه مشياً صوب أول شارع عزمي. الطرقات خالية إلا من الدراجات النارية المتهالكة التي يمتطيها المسلحون: ملتح يقود دراجة وخلفه مسلح إما بمسدس أو بندقية أو رشاش. يدورون بدراجاتهم كما تفعل الحيوانات في الغابة التي تحدد نطاق نفوذها. وحده مقهى «البينكي» فتح أبوابه نصفياً. لكن لا يوجد فيه إلا شخصان. العابرون القلائل ينظرون إليّ، ربما لأنني السيدة الوحيدة في الشارع. لكن حقيبة الظهر والشعر القصير والجينز توحي أكثر بأني غريبة عن المدينة، وخاصة في أوضاع كهذه. المسلحون يتفرسون بي في ذهابهم وإيابهم في شارع عزمي. انعطف في شارع جانبي قبل أن يجدوا الجرأة للتحدث إلي.
أسأل شخصاً أصادفه «في شي من هون أخي»، يفاجأ بلهجتي الطرابلسية «القح»، فيقول «ما في شي أختي ... بدك ساعدك بشي؟». ثم يردف «جايي من بيروت ما هيك؟» ابتسم له وأومئ أن نعم، فيقول «ما تخافي ما في شي».
الرجال الأربعة في عمر الكهولة وضعوا كراسي في أسفل المبنى بجانب الرابطة الثقافية. لا مقاهي هنا، لكنهم جلسوا هكذا صفاً واحداً الى الحائط كما يفعل المتفرجون، طبيعي فالفرجة اليوم هي الشارع. أما بائع السمسمية والعبيدية، الحلويات الشعبية القديمة، فقد ترك بضاعته أمام الدكان المقفل.
ليل طرابلس مشوب بالرصاص والشائعات. يطل النهار التالي على وقع أخبار وشائعات. في طريق العودة، مشياً أيضاً، أمرّ أمام مقهى «البينكي». فأجد بعض الأصدقاء الصحافيين. يخبرونني كيف كان المسلحون يراقبون وسائل الإعلام العدوة ليمنعوا اقترابها ... «قال لي أحدهم ليك؟ من وين عم يبث تبع المنار؟ شفتوا شي؟» ثم يخبرني كيف أنه، هو السني ابن المدينة، والذي يعرف المسلحين بحكم عمله واحداً واحداً، حتى هو لم يستطع أن يحمي مراسل «ام تي في» ومراسل «وكالة الصحافة الفرنسية». تكسير كاميرات ومحاولة مصادرة أخرى. لا بل إن المسلحين بجانب منزل الشيخ سالم الرافعي الناجي من انفجار التقوى، أساؤوا معاملته لدرجة أنه استنكف عن حضور المؤتمر الصحافي. عمل الصحافيين يصبح أصعب فأصعب. يخبرني عن الصور الفظيعة التي التقطها بكاميرته، عن الرجل الذي كان يحتضر محترقاً وهو لا يزال يستنجد، عن محل الخرطوش والأسلحة بجانب مسجد التقوى الذي كانت تسمع منه استغاثة أحد ما، لكن كان من المستحيل دخوله «لأنو واجهتو كانت عم تذوب ذوبان». استأنف سيري لأستقل فاناً من أمام سينما الكابيتول، أمام مقهى الأندلس المقفل، جلس ملتح بعباءته البيضاء وقد وضع قدميه على كرسي مقابله وفاحت رائحة قدميه قوية مختلطة برائحة «الميعة» التي يعطر بها محترفو الدفن جثث الموتى هنا. فقد كانت جنازة الدفعة الأولى من الشهداء قد مرت للتو من هنا. في عيون الرجل الخضراء تلتمع نظرة شر عدوانية وهو ينظر إلينا، صديقي وأنا. أغادر قبل تشييع الدفعة الثانية من الشهداء عند أذان العصر. اليوم طرابلس ليست لنا. إنها لهم. في الليل، يثبت المسلحون سيطرتهم على «المناطق الراقية». يجولون بدراجاتهم في منطقة «الضم والفرز» التي يهرب إليها الطرابلسيون عادة حين تقفل المدينة في وجههم، من أجل بعض التسلية في مقاهيها. «أجبروا المقاهي على الإقفال لأنهم في حداد» يقول الصديق ساخراً «أطلقوا بعض الرصاص في الهواء، وطردوا الزبائن». هكذا استتبّ الأمر لهم. إلى حين؟ من يعلم.