كل الكلام وكل التحليل لن يغيّر كثيراً في المشهد. الولايات المتحدة، الامبراطورية الحاكمة للعالم منذ عقود عدة، تتعرض لأول اختبار حسّاس من بوابة الأزمة السورية. والجميع، من دون استثناء، يعرف ان الأزمة القائمة اليوم، لم تعد ذات صلة حصراً بالوضع في سوريا. وأن لا اميركا، ولا كل الغرب الاستعماري، ولا كل العرب من صنف النعاج، يهتمون لشيء اسمه حقوق الشعب السوري. الاختبار الصعب الذي تمر به الولايات المتحدة لا يخص شخص رئيسها باراك اوباما. الأزمة هي أن مؤسسة القرار في الولايات المتحدة تعيش هذا الاختبار، من الادارة السياسية الى الجيش وأجهزة الاستخبارات الى الديبلوماسية العامة والخاصة، وصولاً الى المؤسسة الاقتصادية والمالية. كل هؤلاء يقفون اليوم امام السؤال الاصعب: كيف نحافظ على مبدأ ان يد اميركا هي العليا؟
قد يصوّت الكونغرس لمصلحة ضربة اميركية لسوريا، وقد لا يصوّت. لكن في كلتا الحالتين بدت الولايات المتحدة تعيش أسوأ لحظاتها. ذلك ان عدّة الشغل باتت واضحة. والسؤال امام الكونغرس لن يكون مرتبطاً بأوراق يحملها جون كيري او تشاك هاغل الى اعضائه. انه مرتبط بتحمّل مسؤولية ما سينجم عن القرار. السؤال هو: هل يريد الكونغرس، الذي يمثل في هذه اللحظة صوت اميركا، ان يقول ان الدخول في المغامرة والحرب، يعني تحمل نتائج المزيد من الحروب والمزيد من الخسائر، لأميركا مباشرة ولكل حلفائها؟ واذا ما قرر الرفض عليه ان يضع استراتيجية جديدة لموقع اميركا القيادي في العالم.
تعرف ادارة اوباما، ويعرف الكونغرس، ان الامور وصلت الى النقطة الاخيرة في مسيرة الكلام والتهويل. لقد حاول وسطاء مساعدة اميركا بايصال عروض الى روسيا وايران لاتاحة المجال امام ضربة من دون رد ضد اهداف يخليها الجيش السوري، وتكون في مناطق بعيدة عن السكان، وحتى عن تجمعات العسكريين. لكن روسيا نقلت جواباً ايرانياً يعبّر عن رأيها ورأي سوريا وحزب الله: اي ضربة، اي صاروخ، اي رصاصة تعني انطلاقة اوسع حرب تشمل المنطقة كلها، وتستهدف الخطوط الحمراء الفعلية لاميركا، من اسرائيل الى النفط وسارقيه... إزاء ذلك ما الذي يمكن القيام به؟
الوقت المستقطع القائم حالياً بين الاعلان عن التوجه نحو ضربة وصدور التغطية النهائية من الكونغرس الاميركي تحوّلت الى «خدمة الهية» للفريق الآخر. منذ اسبوع لم تهدأ محرّكات المحور المقابل. الالاف من العاملين في الوحدات الاستراتيجية في ايران وسوريا وحزب الله ينجزون بسرعة البرق كل متطلبات المعركة المفتوحة، لا حدود فيها للميدان، ومسرحها يمتد حيث تصل الصواريخ... والرجال ايضاً.
في محور المقاومة مناخ حرب فقط. ليس هناك رغبة جدية بحصول المواجهة. لكن القراءة السياسية لنفس الضربة ولأبعادها ونتائجها تحسم القرار: الجميع امام خيارين: اما الذهاب نحو تسوية سياسية وفق موازين القوى القائمة، او الذهاب نحو حرب شاملة لا يعرف احد كيف ستكون نتائجها.
في اوروبا يقدم رئيس فرنسا الديموقراطية والنووية ودولة العلم والحريات نموذجاً حقيراً من التبعية. لا يخجل رئيس فرنسا من القول انه ينتظر قرار الكونغرس الاميركي حتى يحدّد الخطوة التالية. يعلن بوقاحة تستفز خصوم فرنسا، فكيف بأهلها!، ان مصالح فرنسا باتت رهينة عند اعضاء الكونغرس الاميركي. ينتظر هولاند قرب شاشة التلفاز ليقرأ الخبر العاجل المنتظر من واشنطن حول قرار الكونغرس.
في لبنان كانت فرنسا، مثلاً، تحتج على زمن الوصاية السورية لجهة ان المسؤولين في بيروت يضطرون الى انتظار هاتف من دمشق... اليوم فرنسا لا تنتظر الهاتف، مسموح لها فقط ان تتسمر امام شاشات التلفزة لتلقّي التعليمات.
اما اميركا فهي اليوم امام خيارين. اما التصرف وفق منطق المغرور الذي لا يقبل رأياً آخر، ولا شريكاً، وتتجه صوب تجربة جديدة، تحاول فيها حكم العالم من خلال جنونها. او ان تتواضع قليلا وان تقبل نتيجة سياستها خلال العقدين الماضيين. وان مبدأ حصرية القيادة لم يعد صالحاً. وان هناك شراكة حقيقية والزامية مع دول وادارات وشعوب اخرى في العالم.
انها اميركا الجديدة التي عليها ان تختار بين التواضع والجنون...
اما نحن، فقدرنا المقاومة!.