خلال ساعات، نُزع فتيل الحرب الأميركية على سوريا؛ أعلن الروس مبادرة الإشراف الدولي على ترسانة سوريا الكيميائية، مقابل وقف العدوان. وافقت دمشق فوراً، وردّت واشنطن بصورة إيجابية فيها شيء من الحذر الكاذب؛ فقد كشف وزير الخارجية الروسية، سيرغي لافروف، سريعاً، أن المبادرة التي غيرت المناخ الدولي كله باتجاه التسوية، طُبختْ مع الأميركيين؛ الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ونظيره الأميركي، باراك أوباما، تبادلا الحديث، في عز إعلانهما الانقسام الكبير بين معسكريهما، حول إمكانات التوصل إلى مخرج من حتمية الحرب. هكذا تكون قواعد اللعبة بين العملاقين، قد وُضعَتْ؛ دمشق وطهران، تفاهمتا مع الروس حول استراتيجية إدارة الصراع من خندق مشترك، لكن، على الضفة الأخرى، حيث لا يوجد حلفاء بل أتباع، فليس ثمّة سوى المفاجأة والخيبة والعويل، وكأنّ رئيس ما يُسمّى «الجيش الحر»، كان يصرخ باكياً بحناجر بندر بن سلطان ورجب طيب أردوغان وبقية الصغار، كالصغار: نريد الضربة، نريد الضربة. لكن عالم اليوم هو عالم الكبار؛ العملاء والخونة والحاقدون، ليسوا سوى أدوات.
صحيفة «وول ستريت جورنال» الأميركية اليمينية، تشارك أولئك الصغار صيحاتهم المرعوبة: حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة سيستنتجون أنهم لم يعودوا قادرين على الوثوق بها. وتنبّه الصحيفة، خصوصاً، إلى إمكانية خسارة النفوذ الأميركي في مصر. ومصر هي الجوهرة المكنونة للفائز أخيراً في مسار الصراع في المنطقة.
الصراع الدائر معقّد للغاية، ويشتمل على ملفات متعددة ومتداخلة ونقاط للتفاهم وأخرى للتفجير. وإذا كنا لا نغفل، إطلاقاً، أحجام القوى الإقليمية والدولية وأدوارها، فالحقيقة الأولى التي ينبغي أن نراها لكي نفهم التطورات ونتمكن من التنبؤ بها، هي أن الصراع يدور بين الدولتين العظميين، الاتحاد الروسي والولايات المتحدة.
في العالم العربي، هناك العديد من القيادات والسياسيين وصنّاع القرار والرأي، ممن لا يفهم ـــ أو لا يريد أن يفهم ـــ أن مرحلة القطبية الأحادية قد انتهت، وأننا دخلنا، بالفعل، مرحلة تعدد الأقطاب في إطار معسكرين، روسي وأميركي: لم تفقد روسيا ـــ حتى بتفكك الاتحاد السوفياتي ـــ مواردها الهائلة من الأراضي الشاسعة أو ثرواتها الطبيعية الضخمة أو بناها التحتية كبلد صناعي حديث أو، أخيراً، قواها وصناعاتها العسكرية التقليدية والنووية. ما فقدته روسيا هو هيكلية الدولة والإرادة السياسية الاستراتيجية لإدارة كل ما تملك في مشروع قومي. وهذا ما حققته إدارة بوتين للبلاد. وقد نجحت سريعاً، اقتصادها الآن قوي، بلا أزمة، وجيشها أقوى ويتم تحديثه بميزانيات ضخمة. وهو جيش محترف، لكنه مبني على أسس قومية وشعبية، وأخيراً، فإن مستوى حياة الروس اليوم، بالمجمل، ربما يكون الأفضل عالمياً، فالإحصاءات الغربية تقول إن 77 بالمئة من الروس «سعداء».
بالمقابل، الولايات المتحدة قوة عالمية جبارة، اقتصادياً وعسكرياً، لكنها تعيش ثلاث أزمات: الأزمة المالية الاقتصادية المتجذرة ـــ والتي لم تشهد سوى معالجات هشة ـــ وأزمة اجتماعية تختزن ثورة الفقراء والمهمشين، وأزمة الحروب الفاشلة الباهظة التكاليف في أفغانستان والعراق.
وللولايات المتحدة حلفاء في أوروبا الغربية وأتباع في الشرق الأوسط، ولروسيا، أيضاً، حلفاء من الكبار كالصين والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا، وحلفاء أقوياء في المنطقة كإيران وسوريا وحزب الله.
هذه هي اللوحة، وهذه هي توازناتها. وهي، على نحو ما، تعيدنا إلى مطلع الستينيات.
في آب 1962، حصلت الولايات المتحدة على ذريعة للحرب على كوبا؛ كانت قد جربت إطاحة الرئيس فيديل كاسترو بوسائل حرب العصابات المرتزقة (غزوة خليج الخنازير) وفشلت، حين اكتشفت أن روسيا السوفياتية نصبت في الأراضي الكوبية صواريخ نووية متوسطة، ووقع العالم كله في القلق المرعب لحرب كونية، لم يكن الرئيس الأميركي الديموقراطي، جون كينيدي، يريدها بالنظر إلى توجهات إدارته السلموية (بمعنى تفضيل خوض الصراع بالاستخبارات والميليشيات المحلية، لا بالعسكر)، لكنه وجد نفسه، وسط ضغوط التأزيم، في موقف حربجي.
وحين اقترب الفريقان من حافّة الهاوية، توصلا إلى اتفاق بمبادرة الرئيس السوفياتي نيكيتا خروتشوف: موسكو تسحب صواريخها، وواشنطن تتعهّد بعدم الاعتداء على كوبا؛ كانت تلك اللحظة التي مُدّ فيها الخط الساخن بين عاصمتي الحرب والسلام، وتوضحت حدود الحرب الباردة ومساراتها.
لعل بوتين (الذي يعدّ سقوط الاتحاد السوفياتي أكبر كارثة جيوستراتيجية في التاريخ)، أفضل تلامذة الحقبة السوفياتية في إتقان الجدل بين تأكيد الانقسام الكبير للعالم، وبين عقد التسويات المعقدة لتلافي الحروب في اللحظة الأخيرة. لكن ميزة بوتين عن أساتذته السوفيات، هي الدينامية السريعة؛ فليس هناك وقت لإضاعته؛ ذلك أن روسيا تستعدّ لتأسيس دورها القيادي في القرن الحادي والعشرين.

الخسائر

في المبادرة الروسية لتجميع الأسلحة الكيميائية السورية وإتلافها، وربما اضطرار دمشق إلى التوقيع على معاهدة منع انتشار الأسلحة الكيميائية، خسائر جدية لمحور المقاومة والممانعة، لا نستطيع إنكارها، وهي:
أولاً، تجريد سوريا من سلاحها الاستراتيجي الذي يشكل قدرة الردع أمام السلاح النووي الإسرائيلي. وبالمحصلة، سيؤدي ذلك إلى خلل في ميزان القوى بين سوريا والعدو الإسرائيلي. وربما يكون البديل الوحيد المتاح لاحقاً هو الاعتماد على سدّ الثغرة بالمقاومة.
ثانياً، تسليم السلاح الكيميائي السوري تحت الضغط العسكري، سوف يفتح شهية الولايات المتحدة وإسرائيل، لممارسة التهديد بالحرب لوقف المشروع النووي الإيراني. وقد اعتبرت صحيفة «معاريف» الإسرائيلية، أن تطبيق المبادرة الروسية بشأن كيميائي سوريا، سيكون له «تداعيات إيجابية» على الملف النووي الإيراني، من خلال التلويح «بالخيار العسكري ضد إيران».
ثالثاً، ليس هناك ما يضمن عدم الانزلاق إلى وضع استباحة السيادة السورية من خلال التفتيش على النسق العراقي. وهو ما سترفضه دمشق، ويجدد، تالياً، مناخ التهديد بالحرب. وهو ما يتطلب اليقظة، وتقنين تقديم التنازلات، وتلافي الركون إلى مزاج تجنّب الحرب بأي ثمن ... إلخ.

المكاسب

يستطيع أوباما، بالطبع، أن يتبجّح بأن الحكومة السورية رضخت تحت التهديد العسكري. وفي هذا القول ما هو صحيح؛ فدمشق قدمت تنازلاً كبيراً جداً لتجنّب الحرب، لكن، بالمقابل، لا يخفى على أحد أن أوباما كان في مسيس الحاجة إلى مخرج ينقذه من حرب هي فوق طاقة الولايات المتحدة، اقتصادياً وعسكرياً ومعنوياً واستراتيجياً. وهو ما صاغ السياسة الحربية المترددة للبيت الأبيض. ولقد بات الجميع يعرف ويقرّ بأن إرادة المجابهة ـــ وقدراتها ـــ لدى سوريا وحلفائها، هي التي عطلت، مرة بعد أخرى، الضربات الصاروخية الأميركية. وهذه هي الخلفية الأساسية للمكاسب المتحققة جراء التوافق الروسي الأميركي لتلافي الحرب مقابل الكيميائي؛ لقد اكتشف العالم كله ـــ ربما باستثناء العملاء الصغار في الشرق الأوسط ـــ أن القوة الأميركية لم تعد فوق التوازنات الدولية المستجدة، وأنها مقيّدة بعوامل كابحة، داخلياً وأوروبياً وعالمياً.
ولكن، ما الذي حققه محور المقاومة والممانعة بالملموس؟ تجنّب الحرب الشاملة؟ نعم؛ فرغم ثقتنا بأن حرباً كتلك لن تضع أوزارها بانتصار المعتدين، وأن سوريا وإيران والمقاومة، ستخرج منها، أقوى دفاعياً وسياسياً، إلا أن تحقيق الحد الأدنى من الأهداف (إسقاط مشروع تفكيك سوريا، وتصليب محور المقاومة، وتعزيز تحالفاته الدولية) من دون حرب، ولو بكلفة الكيميائي، يبقى الخيار الأقل كلفة وجدوى. وهو خيار له مكتسباته، ومنها:
أولاً، منع توجيه ضربات عسكرية لسوريا، كان من شأنها أن تزيد من دمار البلد وآلام أهلها، وتضعف قدرة الجيش العربي السوري وحلفائه ـــ وإنْ موقتاً ـــ على خوض المعركة مع الجماعات المسلحة والإرهابية، وربما حتى تجنّب مذابح سيقترفونها تحت القصف الأميركي.
ثانياً، إحباط الخطة السعودية ـــ التركية الجاهزة لاستغلال العدوان الأميركي والتوغّل البري، أثناءه وبالتنسيق معه، في الأراضي السورية بقوتين مجهزتين مما يسمى الجيش الحر والجماعات الإرهابية، إحداهما تنطلق من الجنوب والأخرى تنطلق من الشمال، على أساس أن تلتفّا على دمشق لتلافي دفاعاتها القوية، ومن ثم تلتقيان في حماه، وتشطران سوريا، بالتالي، إلى شطرين؛ عندها يحدث التقسيم والتطهير على أساس طائفي ومذهبي. ونحن لا نقول إن هذه الخطة كان لها حظ حتمي من النجاح، لكنها كانت جاهزة، وكان يمكن أن تؤدي، ولو جزئياً، إلى تغيير ما في هيكلية الحرب السورية. ثالثاً، إفشال التخطيط الإسرائيلي ـــ وهو ذو وزن أساسي في الحرب الأميركية ـــ الذي كان يركّز على ما بعد سوريا، أي على استجرار الولايات المتحدة إلى حرب مفتوحة ـــ رغم كلفتها الباهظة على إسرائيل نفسها ـــ ضد إيران؛ فمع توسّع الحرب، وشمول الرد السوري ـــ المدعوم من إيران وحزب الله ـــ على ضربات موجعة لمواقع إسرائيلية، كانت ستخلق الشروط للعدوان على الجمهورية الإسلامية نفسها، كما على مواقع حزب الله في لبنان.
رابعاً، الإفساح في المجال أمام الجيش العربي السوري والمقاومة لمواصلة العمليات العسكرية والأمنية ضد الإرهابيين. ومن المتوقع أن تشهد المرحلة المقبلة تسريعاً في هذه العمليات، وإحراز مكاسب جدية على الأرض؛ ذلك أن كسب المعركة الداخلية ضد الإرهاب وفرض الأمن على مناطق أوسع فأوسع في البلاد، يشكل أساساً لتصعيب خطط العدوان اللاحقة، ويمكن من تحقيق تسوية تكفل ليس فقط وحدة سوريا وإنما، أيضاً، استقلالها وخياراتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ودورها الرئيسي في محور المقاومة. ويمكننا، هنا، أن نقدّر أن القيادة المشتركة التي تدير المعركة الوطنية في سوريا، سوف تضع على الطاولة، في المرحلة المقبلة، ضرورة الذهاب إلى الحد الأقصى في استخدام القوة لكسر الجماعات المسلحة، وخصوصاً أن الأخيرة تشعر الآن باليأس، ومن المتوقع أن ينفضّ عنها المقاتلون غير المؤدلجين، بحيث تزداد السيماء الإرهابية لتلك الجماعات، وتزداد عزلتها المحلية والإقليمية والدولية.
خامساً، تعزيز وتوثيق العلاقات التحالفية بين سوريا ومحور المقاومة وبين روسيا ودول «بريكس». وسيكون على روسيا، بموجب التزام السوريين بالتخلّص من أسلحتهم الكيميائية، (1) ضمانة عدم اعتداء الولايات المتحدة على سوريا أو إيران أو حزب الله. وهي ضمانة لها استحقاقات جدية في العلاقة بين العملاقين، (2) زيادة وتسريع تزويد سوريا بالسلاح والعتاد، واستكمال توريد نظام صواريخ «اس 300»، وتفعيل الدور الروسي في الدفاع السوري، في مجالات عسكرية واقتصادية وإنسانية عدة، وأهمها شمول سوريا بالمظلّة النووية.