فُتحت أبواب التفاوض على أحد فصول الحرب السورية، من دون أن يفضي حتماً الى ختمها. باتت الضربة العسكرية أحد الخيارات المتاحة ــــ لا الخيار الوحيد ـــ بعد اقتراح روسيا تخلي نظام الرئيس بشار الأسد عن السلاح الكيميائي، وارتفاع نبرة المجتمع الدولي معارضاً الضربة، من دون إغفال محاسبة الجناة في استخدام السلاح الكيميائي. ورغم أنها الأيام الأولى لانحسار موجة التشاؤم والتوجس التي رافقت التهديد بالضربة، والمخاوف المترتبة على تداعياتها قبل أن تتضح تماماً الآلية الإجرائية لوضع الاقتراح الروسي موضع التنفيذ، خرج النظام والمعارضة المسلحة من تطورات الأيام الثلاثة المنصرمة، منذ الاثنين، بردود فعل متناقضة: التقط الأسد أنفاسه بما يمكّنه من مواصلة حربه وضمان استمراره، وشعر معارضوه بأنهم فقدوا فرصة ثمينة واستثنائية كانوا يتوقعون من خلال الضربة أن تؤدي الى انهيار النظام وتسلمهم هم السلطة.
انتهى التفاهم الروسي ـــ الأميركي الغامض الذي أحاط باقتراح موسكو، الى أن يتضح المزيد منه في ما بعد، الى إبقاء موازين القوى العسكرية على ما هي عليه. بل حافظ على رجحان كفة الجيش والمتحالفين معه كالميليشيا الشعبية و«حزب الله» والميليشيا الشيعية العراقية على مئات ألوف المسلحين من جنسيات مختلفة يقاتلونه.
آل ذلك الى ملاحظات استخلصها متابعون عن قرب المواجهة التي يخوضها الرئيس السوري مع الغرب:
أولاها، أن واشنطن أظهرت بالطريقة التي قاربت بها الاقتراح الروسي وتجاهلها موقتاً الضربة العسكرية، أن ما يعنيها من دوران الحرب السورية هو السلاح الكيميائي، وليس نظام الرئيس السوري. بدّلت الأسلوب ولم تتخلّ عن الهدف، وعدّت الضربة العسكرية وسيلة من أجل هدف انتزاع هذا السلاح من يد الأسد، وكي لا يكون في يد أي فريق آخر في حال انهيار النظام فجأة، كمعارضيه المسلحين، ولا سيما منهم التيارات السلفية أو «حزب الله». لم يقل الرئيس باراك أوباما إن رأس الرئيس السوري والنظام هو الهدف كي يُحسب صرف النظر عن الضربة العسكرية تراجعاً، ومن ثم مكسباً للأسد.
منذ اليوم الأول لتهديده، وجّه انتباهه الى السلاح الكيميائي وتداعيات استخدامه في سوريا وعلى جيرانها، إلا أن اجتهادات وتأويلات رافقت هذا التهديد راحت تنسج أهدافاً ثانوية ملازمة للهدف المحوري عبر الاعتقاد بتوسيع نطاق الضربة. لا تكتفي بضرب مخازن هذا السلاح وتدميرها، بل تساهم في تصويب موازين القوى العسكرية وترجيح كفة المعارضة المسلحة باستهداف منشآت التفوق لدى النظام وأسلحته كالمطارات العسكرية وسلاح الجو ومرابض مدفعيته الثقيلة.
من دون أن يفصح أوباما مباشرة عن دعمه الأهداف الثانوية تلك أو يلمّح إليها حتى، كان في المقلب الآخر من أوهام أغرقت المعارضة المسلحة نفسها فيها، متوقعة ساعة سقوط نظام الأسد، الى أن أشعرتها موافقة واشنطن على الاقتراح الروسي بالخديعة.
لم تُعطَ المعارضة، في الواقع، في أي وقت من مراحل التهديد بالضربة آمالاً حقيقية في أنها شريك لواشنطن في مكاسب الضربة. كذلك تركيا والسعودية اللتان تحضّرتا لنتائج ضربة لا تريدان منها ـــ في معرض تذرّعهما باستخدام السلاح الكيميائي ـــ سوى التخلص من نظام الأسد.
ثانيتها، أن لا نظام صديقاً لواشنطن في سوريا حتى الآن يخلف الأسد كي تثق الإدارة بحاجتها الى ضرورة استعجال تقويض نظامه وإطاحته بضربة عسكرية مباشرة، أو بتعزيز قدرات المعارضة المسلحة في سبيل الوصول الى هذا الهدف. لم يعثر الأميركيون بعد على بديل يحل محل الرئيس السوري، رغم كرههم العميق له واتهامه بشتى نعوت القسوة والعنف والوحشية، وسعيهم الى إخراجه من السلطة من دون التسبب بفوضى. وهو ما أبرزوه مراراً بتأكيد تمسكهم بانتقال للسلطة من ضمن تسوية سياسية لا مكان للأسد فيها، وتفضي الى إخراجه ورجالاته نهائياً من المعادلة السورية. وهو ما يتوخّونه من مؤتمر « جنيف ـ 2» على صورة مطابقة لتفسيرهم ما انتهى إليه مؤتمر «جنيف ـ 1» في حزيران 2012، عندما تحدث عن انتقال صلاحيات الرئيس الى حكومة وحدة وطنية.
وعلى وفرة دعمها السياسي لمعارضيه وارتباكها في تصنيفهم بين تيار ليبرالي ومجتمع مدني وسلفيين إرهابيين، لم تجد واشنطن في سوريا ما وجدته في مصر عندما انقلب الجيش على الإخوان المسلمين الذين كانوا يحظون بتأييد أميركي، وحلّ في الحكم محلهم، من دون أن تقع البلاد في فوضى. أغضبتها طريقة إخراجهم من السلطة، إلا أن هذه أضحت في يد المؤسسة العسكرية. وكانت واشنطن قد تمكنت في حقبة الرئيس السابق حسني مبارك من مد نفوذها الى صفوف الضباط الكبار فيها.
حجة كهذه لا تساعد الأسد على البقاء على رأس بلاده فحسب، بل تحمل الإدارة ـــ وهي تلوّح بعصا التدخل والضربة العسكرية الآن أو في أي وقت آخر ـــ على بذل جهود مضاعفة من أجل العثور على نظام صديق في صفوف المعارضة السورية غير موجود في أحسن الأحوال، من جراء تفككها وتعدد ولاءاتها وغلبة التيارات السلفية، الأكثر فاعلية على الأرض وفي المواجهات العسكرية، على الوجوه المدنية فيها.
ثالثتها، مع إصرارها في ما مضى على الضربة العسكرية وتسلّح الرئيس الأميركي بصلاحيات يخوله الدستور استخدام القوة دفاعاً عن مصالح بلاده، لم يكن في وسع أحد في الغرب التكهن بأحد تداعيات ثلاثة محتملة تنجم عنها: فشل الضربة في حال كانت محدودة واقتصرت على أهداف محددة وضيّقة وأبقت على نظام الأسد، إشعال المنطقة في ضوء تهديدات إيران وانهيار غير متوقع لنظام الرئيس السوري.
ليس أي من الخيارات الثلاثة هذه مأمون الجانب. في المقابل لا تعني الموافقة المبدئية للحكومة السورية على وضع السلاح الكيميائي تحت رقابة الأمم المتحدة اعترافاً بمسؤولية النظام عن مجزرة الغوطة، على نحو اتهام الغرب إياه بها، بل تبريراً لخضوعه لضغوط دولية أرغمته على التخلي عنه لتجنيب بلاده هجوماً عسكرياً قد يكون مدمراً. بالتأكيد يجرده انتزاعها منه أحد المصادر الرئيسية، المكتومة لوقت طويل، لقوته العسكرية. إلا أنها لا تفقده تفوقه على معارضيه المسلحين.
بذلك تمكّن اقتراح موسكو، حتى إشعار آخر على الأقل، من بلف ثلاثة:
ـــ الضربة العسكرية كي لا تمنح واشنطن موطئ قدم مباشراً في الحرب السورية، وسابقة تدخل عسكري فيها.
ـــ نظام الأسد بإضعاف إحدى القدرات المهمة لترسانته العسكرية، في مقابل عدم زعزعة مقدرته على ضرب خصومه.
ـــ المعارضة بإبقائها على هامش كل ما أحاط بالنزاع الدولي على السلاح الكيميائي بلا أدنى مكسب شكلي حتى، وتبديد أوهامها بخلافة الأسد.