دمشق - لم يعد الادخار يجدي أي نفع في المصارف السورية بالنسبة إلى السوريين، فيما لو احتسبوا الأمر من الناحية الاقتصادية، فما وضعوه من أموال قبل سنوات الأزمة عادوا ليجدوه تقريباً كما كان من حيث الكم، وإن كان قد فقد الكثير من قيمته، بعدما تراجعت عملتهم المحلية أمام الدولار على نحو حاد، وطبعاً لم تستطع هذه المصارف أن تعوضهم عن الخسارة لأن ما قدمته من فوائد بقي في حدود غير مقنعة.
ولم يتردد الكثيرون في سحب أموالهم وتحويل مدخراتهم إلى الدولار من دون أن يضعوها ثانية في المصارف السورية، نظراً إلى بساطة الفائدة التي يمكن الحصول عليها. ويوضح مصدر في المصرف التجاري، وهو أحد المصارف السورية الذي عرف عنه منذ بداية الأزمة بيعه الدولار أو اليورو بشروط وقيود تتضمن في بعض بنودها ايداع المبلغ فترة معينة، في حديثه مع «الأخبار»، أن غالبية من التزموا بهذا الشرط سحبوا أموالهم مباشرة بعد انتهاء المدة المقررة.
ويعلم الجميع أن الادخار يتأثر كأي متغير اقتصادي بالاستقرار السياسي والأمني في أي بلد، فعند حدوث اضطراب سياسي أو اقتصادي في بلد من البلدان، يلجأ الناس إلى سحب مدخراتهم من الجهاز المصرفي، وتسبب زيادة السحوبات أزمة سيولة (أزمة مصرفية)، وهو ما يعرف بالأزمة المزدوجة التي تعد من أشد أنواع الأزمات تأثيراً على الاقتصاد الوطني، وفق ما يوضح الدكتور ياسر المشعل، المدرس في كلية الاقتصاد في جامعة دمشق. ولقد أظهر أنّ الوضع في سوريا لم يكن بعيداً عن هذا السلوك، إذ عمد الكثيرون إلى سحب أموالهم، من دون أن يسبب ذلك أزمة مصرفية، والسبب مساهمة القطاع العام السوري في الجهاز المصرفي.
ويشرح المشعل أنّه، بالنظر إلى حجم الودائع قبل وبعد بداية الأزمة، «نلاحظ انخفاض ودائع الأفراد، بينما لم تحقق ودائع القطاع العام انخفاضا كبيرا»، مع الإشارة إلى أن النسبة الأكبر من الأفراد في سوريا يميلون إلى الادخار خارج المصارف، حيث لا تمثل ودائع الأفراد أكثر من 20% من اجمالي الودائع في المصارف. وغالبية هذه الودائع، كما يؤكد الدكتور عابد فضلية، وهو مدرس في جامعة دمشق ومدير بنك سابق، ليست بالمبالغ الكبيرة، ونسبة كبيرة منها سحبت ليس بهدف الحفاظ على قيمتها، بل بهدف تأمين احتياجاتهم اليومية، بعد ارتفاع تكاليف الحياة على نحو كبير، أو بسبب الانتقال من بيت إلى آخر مع استمرار عمليات التهجير.
واليوم يدور الحديث على نحو خجول عن خطة ينوي مصرف سوريا المركزي تنفيذها لدعم من دعمه. وطبعاً هذه الخطة لن تنطبق على الجميع إذا نُفذت، وسيكون لها شروطها الكثيرة، التي لم يظهر منها إلا تسريبات حتى الآن، تحدثت بداية عن طرح «المركزي» منتجاً جديداً للمودعين بالليرة مدة سنة، بحيث تتحمل البنوك الفوائد الاسمية فقط، بينما تدفع الدولة العلاوة، من دون السماح بالاقتراض أو الإقراض خلال الفترة التي سيُطرح فيها هذا المنتج أيضاً، بما يحقق دعم الليرة. وتراوح الفوائد الممنوحة للمودعين حسب الاقتراح من 25 إلى 40%، ولم توضح التسريبات المصادر التي يمكن أن تأتي من خلالها المصارف بهذه الفوائد العالية، كما أنه لم يميز بين المواطنين العاديين والشركات الكبرى، التي هي بحكم القانون مجبرة على الاحتفاظ بالليرة السورية. وتخوف بعض المطلعين من مسألة تمديد الكتلة المالية في حال تطبيق هذا الاقتراح، بارتفاع الفوائد إلى 40% في السنة، فيما تحدثت تسريبات صحافية لاحقة، عن أن «المركزي» طلب من جميع المصارف العامة بيانات متكاملة تشمل الإيداعات والسيولة لدراستها، كي يجري على أساسها تحديد نسب التعويض، حيث إن النسبة المقترحة في الدراسة ليست هي النسبة التي يعتقد كثيرون أنها ستقر في النهاية، بل هناك نسب محتملة أخرى، قد تكون 20% أو 30% أو نسبة قريبة من النسبتين المذكورتين، في إشارة إلى أنّ الخزينة العامة للدولة ليس بمقدورها تحمل نسبة 40%.
وفصلت هذه التسريبات الأخيرة أن التعويض لن يشمل جميع المودعين بالليرة السورية في جميع المصارف العامة، بل هناك فئة محددة سيجري التعويض لها، وهذه الفئة تمثل المواطنين الذين كانوا مودعين لدى المصارف قبل بداية الأزمة، ولم يسحبوا أموالهم أو يستبدلوها بالقطع الأجنبي.
ورأى فضلية أنّ الطريقة التي يجري فيها التعاطي مع الموضوع معيبة، فرغم أهميته بالنسبة إلى الكثيرين يلتزم المصرف المركزي الصمت، ويكتفي بالتسريبات غير الأكيدة. وهذه التسريبات لم توضح من سيستفيد من هذه المساعدة وبأي طريقة وما عدد مرات الاستفادة وسواها من الأمور، كما أن عدم السماح للمصارف بالاقراض يعدّ خسارة صافية للمصرف بمقدار الفوائد الاسمية. وأوضح أن الغاية من الاقتراح سحب مبالغ من المضاربة في سوق القطع، لكن الوجه السلبي هو خلق المزيد من الانكماش في السوق الاستثمارية والتجارية، مبيناً أن هناك تخوفاً في حال رفع الفائدة من أن تنتج عنه تغطية بالعجز، وتغطيتها من المخزون بالليرة السورية.
من ناحيته، يوضح الدكتور المشعل أنّ المطلوب اليوم تعزيز ثقافة الادخار المصرفي، وتعزيز قدرات المصارف، ودعم الجهاز المصرفي، وخاصة مع وجود أزمة سعر صرف، وذلك من خلال ايجاد بدائل ادخارية مغرية ومرنة، ولا تؤثر في السيولة المصرفية في حال سحبها، منها شهادات الايداع، إذ تعدّ هذه الشهادات إحدى الأدوات الاستثمارية المهمة التي يمكن تداولها في أسواق النقد، كما يشرح المشعل. ويضيف إنها ستمنح القدرة على التحوط ضد مخاطر انخفاض أسعار الصرفن وخاصة إذا كانت هذه الشهادات بالعملات الأجنبية دون الاضطرار إلى التدول بهذه العملات.