ستزور بلدة اليمونة يوماً. ستكتشف طيبة أهلها. سترى حقول حشيشة الكيف (القنب الهندي) التي ربّوها بـ«الشبر والندر». سترى أيضاً مسطحات خضراء، زينها الخائفون من حملات التلف. ستعيش يوماً في حقولها. وعندما تخرج منها مشبعاً برائحتها، ستضيف إلى ذاكرتك بلا شك حكايتين لن تجدهما بالتأكيد في اي مكان سواها.
الحكاية الأولى، تلك التي ارتبطت ألسنة أهلها بزمن «مصر السادات». هكذا، تسمعها منهم. أنور السادات، الرئيس الذي مرّ يوماً على مصر، ذكر حشيشتهم، فحفظوا اسمه وأحبوا غزله، ولا يزالون. لم لا، ورئيس «ام الدنيا» تغنّى بحشيشة اليمونة! ذلك مفخرة لأهلها أولاً.. ولصناعتها الوطنية أيضاً.
ثانية الحكايات، تلك التي ارتبطت بقوة أهل اليمونة وصبرهم. فهؤلاء، المكافحون من أجل لقمة العيش، كغيرهم من سكان قرى البقاع، مزارعون اشدّاء وجدوا ضالتهم في الحشيشة. زرعوا. واجهوا حملات التلف بأجسادهم. وحصدوا ليأكلوا. لا أكثر من ذلك ولا اقل. من هنا، ولدت حكاية اليمونة. حكاية يختصرها اهلها المتشبثين بالارض بعبارة فيها كل معاني التحدّي: «ارض اليمونة بتنزرع بالكيف حتى لو لم يبق ارض في الدنيا مزروعة».
ناس اليمونة ناس طيبون. لا يغركم التحدّي. هم لا يستقوون برواياتهم، ولكنهم «يريدون العيش». الكل يقول ذلك هناك. يقولون أكثر. يقولون انهم مضطرون لهذا الزرع. نعم زراعتهم اضطرارية لا يمتلكون بديلا منها، وثمة أسباب للإضطرار، وهي ليست حكراً على أهل اليمونة فقط، وإنما على قرى كثيرة مهملة ومتروكة للقهر وسادية الدولة الفاشلة. تلك الأسباب تبدأ أبداً «من عدم وجود البديل». أضف إلى ذلك، «ميزة» النبتة «غير المكلفة في زراعتها، وإن كانت متعبة، والتي «نستطيع زراعتها في كل عام من دون حاجة لإراحة الأرض كما في باقي الزراعات». مهلاً، الأسباب لا تقف هنا، فمن الذي سيستبدل موسماً من الحشيش «يدرّ خمسين مليون ليرة دفعة واحدة بدلاً من خمسين شهراً في الخدمة العسكرية أو التعليم مثلاً»؟
لكل هذه الأسباب، هي مباركة في عرفهم. يزرعونها في كل مكان: في سهولهم، في الفسحات المتبقية أمام المنزل، في أحواض الورد، وعلى أسطح المنازل للهاربين من حملات التلف: «اذا تلف المحصول، يبقى السطح». لكن، ما الذي يمكن أن يجنيه المزارع من مساحة السطح؟ قد تسأل، وقد يأتيك الجواب «ربع ورا ربع بيجي المليون». وفي الكثير من الأحيان، يعمد هؤلاء إلى تخزين المحصول لبيعه في أوقات الشح أو «في مواسم التلف».
عيد الصليب: اشارة الانطلاق
في اليمونة، كثيرون يزرعون. ولكنهم، ليسوا كلهم صابرين. ثمة الكثير منهم يترك موسمه قبل أن يهنأ به، مدفوعاً بالعجز. يبيعونها «خضير» (أي عندما يكون الموسم أخضر) للتجار المعروفين، بسعر أقل بكثير من السعر الذي كان من الممكن تحصيله فيما لو باعوها مصنعة. مع ذلك، لا مكان للخسارة. فهنا، ثمة هامش للربح، ولو ضئيلاً، يعوض المزارعين التعب الذي كانوا سيقضونه في تصنيعها. تلك الدرب الطويلة التي تبدأ مع «عيد الصليب»، منتصف أيلول، عندما يتضرّع المزارعون «لتخرب الحكومة» أو «تعلق بشي محل»، كي ينهوا الموسم بلا «كبسات». وبما أن الادعية تحققت اليوم، فقد بات بإمكان المزارعين الاطمئنان لموسمهم.
يبدأ القطاف، يباشر بعده المزارعون رحلة «التيبيس والضرب وهز الأوراق والدق وفصل التبن عن البزر (القنبذ) وعن الحطب». وعندما تنتهي هذه الجولة تبدأ «جولة الفرك والنخل بالحرير». تلك الجولة التي يفضل المزارعون أن تكون بـ«بتشارين»، مع البرد «كونه يؤثر على المحصول إيجاباً».
يفخر أبناء اليمونة بأن «حشيشتهم» هي الأجود. والدليل؟ «كميات الهابو التي نحصلها». والهابو هي «نخب القطفة الأولى أي نخل التبن أول مرة، وميزتها أنها مثل العلكة فيها زيت». أما القطفة الثانية فتأتي معها الزهرة والثالثة الكبشة، وقد تأتي قطفة رابعة وخامسة «حسب جودة الأرض». وارض اليمونة تمتاز بجودتها.
الفائز من تتفوق قطفته الأولى على الباقين. فهنا، نتحدث عن الهابو «صاحب السعر الأغلى والمطلوب على قائمة التجار المعروفين». مع ذلك، لا يجني المزارع من محصوله، أياً يكن نوعه، كما التاجر. وغالباً ما يكون الفارق شاسعاً بين ربح الأول وربح الثاني. وحتى في حالة التجار، ثمة فارق في ربح تاجر «القطاعة» وتاجر «السكك»، مع الفارق بالمواصفات أيضاً «أولاً في التعامل، كون تاجر السكك لا يشتري المحصول من المزارع مباشرة وإنما عبر مندوبين وثانياً في الكمية التي غالباً ما يتفوق فيها الأخير».
لكن، في كلتا الحالتين، التاجر «يربح كثيرا او يربح اكثر». ومن عند هؤلاء «تبدأ رحلة الفساد، وإن كانت بدرجات»، يقول أحدهم. فتاجر القطاعة الذي يشتري موسماً «على مقاسه» من المزارعين يعمد إلى تصريفه «في بيروت عند بعض الوسطاء». وغالباً ما تذهب «تلك الكميات إلى الناس». قد يكون فاسداً ما يفعله هذا الرجل، ولكن لا مجال للمقارنة مع «شاري الرتب»، وهو تاجر السكك. ولمن لا يعرف معنى السكك، فهي رحلة التصريف إلى الخارج. والسكة أيضاً عبارة «عن مافيا منظمة تبدأ هنا وتنتهي خلف الحدود». أما شاري الرتب، فهو الرجل الذي استطاع بناء شبكة علاقات، رأس هرمها «ولاد الدولة». وإلا، فكيف ستسير السكة؟ يعرف أبناء اليمونة أن التجار فاسدون ــ أصحاب قطاعة أم سكة ــ ويعرفون أيضاً أن «من يريد اختبار كمية الفساد في البلد، عليه أن يعرف كيف تُمرّر المخدرات».
معابر التهريب: قوّة التاجر مكرماته
غالباً ما تبدأ تلك العملية مع تاجر السكة. هذا الرجل يشتري مواسم الفقراء المضطرين لزراعة الممنوعات بأسعارٍ زهيدة بحجّة اكلاف «السكّة». وهو «يعرف كيف يلعب. قد يبدأ مشواره «بحرتوقة، مثلاً تسيير البضاعة والتبليغ عنها للجهات الأمنية وعندما تضبط يباشر بتظبيط الرتب». هذا ما يقوله العارفون. و»تظبيط» الرتب يعني «المكرمة»، وتالياً يعني أن السكّة سار وضعها في البلد، وهذا يعود «لقوة التاجر ومكرماته التي تتعلق بسعة السكة وقوتها. وغالباً ما يكون «شاري الرتب» هنا رجل ذائع الصيت بلا وجه، إذ «ينوب عنه مندوبوه». وهم يحبذون المرور على الحاجز «كرمال هيبة الدولة».
أما التهريب، فغالباً ما يكون عبر الحدود ــ معابر التهريب ــ المتعارف عليها. ثمة طرق أخرى، ولكنها نادراً ما تستخدم كون حجم البضاعة المصرفة ضخما، وليس «كحبات الكبتاغون أو البودرة البيضاء»، فالأخيرة يسهل تصريفها عبر المطار، أما هذه فيصعب تصريفها لحجمها، إلا نادراً... في حقائب دبلوماسية. وقد صار التجار بارعين في إنتاج حقائب دبلوماسية تشبه تلك الأساسية «وبنصف السعر». أو حقائب أقوى من «ماكينات التفتيش بالليزر وأقوى من الكلاب البوليسية التي قد تفقد حاسة شم هذه الأنواع بدس أشياء تفقدها حاستها، منها مثلاً الثوم والمايونيز». لذلك، الطريق الأسهل للسكة هو البر، وقد وجد أبناء المنطقة معابرهم الأكثر أمانا وتصريفاً وهي الدولة المصرية عبر سيناء والأردن عبر الصحراء أيضاً «حيث يتم التصريف على الخيول» وفلسطين التي تتم إما عبر الأنفاق أو عبر الحدود مباشرة.
السكة لا تكتمل بتاجر الداخل، إذ يفترض أن يكون هناك تاجر أكبر في الخارج، إذ يلعب تاجر الداخل على قوته وسيطاً بين المزارع والآخر الخارجي... شاري الرتب في بلاده. لكن، غالباً ما يرسل هذا الأخير وسطاءه إلى لبنان مثلاً ليعقدوا صفقاتهم مباشرة. ومن من أهل اليمونة لا يعرف تينو؟ زعيم المافيا السويسري؟ ذلك الرجل الذي أتى إلى اليمونة في سبعينيات القرن الماضي. مات وما زال «الرفاق يأتون «على حجته».
قد يشكو التجار من «الرقابة المفاجئة» على المعابر. ولكن، في عرف الكثيرين منهم لا شيء اسمه «مسكّر على الآخر». فالمهرب غالباً ما يكون أذكى من دولته، وإلا فلمَ سمّي مهرباً؟ وكلما ابتكرت الدولة أسلوباً لمنع التهريب، وجد المهرب مخرجاً. وقد تكون تجربة الأنفاق هي الأفضل مثالاً أو حتى التهريب مع الكلاب.
تبقى مهمة التهريب صعبة، إنما ليست مستحيلة. وثمة من انتقل منها إلى تجارات أخرى لأنها «باتت موضة قديمة». ولكن، ثمة من اختار البقاء فيها، لأنها على قدمها، إلا أنها موضة «لا تبطل». أضف إلى ذلك أنها «تجارة عريقة»... وزبائنها أيضاً. فعلى المستوى المحلي، تكفي زيارة واحدة إلى هناك «لرؤية أصحاب الراس وغالبيتهم من المفكرين». هذا ما يقوله أبناء اليمونة. أما على المستوى الخارجي، فالحشيشة زاد الطلب عليها. والسكك المزدهرة خير دليل.

تم تعديل هذا النص عن نسخته الورقية بتاريخ | ١٤ ايلول ٢٠١٣