بين نقوش قلعة بعلبك، عند هياكل معبد «باخوس» الرومانية تحديداً، يطالعك نقش أثري لنبتة «القنّب الهندي» المعروفة باسم حشيشة الكيف. ستراها إلى جانب نقوش سنابل القمح. هذا ما ينقله البعض بحسب خبراتهم. ترى هل كان الرومان «يُكيّفون»؟ مهما يكن، فهي مسألة تحتاج إلى دراسة تاريخية، إلا أنها تستوقف وزير الداخلية مروان شربل كثيراً. يدعو إلى تأملها.قبل سنة تقريباً، نجح شربل باستيعاب غضبة مزارعي الحشيشة في البقاع، في بلدة اليمونة تحديداً، بعد صدامات دامية مع الجيش والقوى الأمنية. هؤلاء مزارعون لا تجّار مخدرات، المزارع من الطبقة الفقيرة، ومحصول زرعه لا يكاد يرد ما يسد به رمق عياله، على عكس التُجار الذين يبنون ثروات ضخمة. المزارعون هم الحلقة الأضعف في رحلة الكيف. بعض هؤلاء لم يتعاطوا الحشيشة يوماً. اعتادوا أن تحط القوى الأمنية، كل سنة، ضيفاً ثقيلاً على حقولهم. يُتلف جهدهم أمام أعينهم. نادراً ما كان يمر هذا «الطقس» السنوي على خير.
هذا العام، في أيلول الجاري، ربما لن يكون هناك صدامات. رسمياً لم تحسم وزارة الداخلية والقوى الأمنية بعد قرارها، لكن كل المعطيات تشير إلى موسم كامل من دون إتلاف. مرد ذلك إلى أكثر من سبب. أولاً، بحسب مرجع حكومي، فإن «الوضع الأمني حالياً لا ينقصه صدامات إضافية». موقف يستبطن أن «خطر» الحشيشة لا يستأهل التوقف عنده في مقابل الأخطار أخرى. إذاً إنها ضرورات المرحلة. (هل ثمة من شخّص نهائياً ضرر الحشيشة أصلاً؟). وزير الداخلية يستشعر الحرج أمام المزارعين هذا العام، بعدما وعدهم العام الماضي بإيجاد حلول، منها الزراعات البديلة (التي ما زال الحديث عنها منذ اتفاق الطائف مجرّد حديث). لم يستطع شربل أن يفي لهم بوعده، إلا نسبياً، ومرد ذلك إلى «رفض وزارة المال إعطاء المزارعين ما كان قد اتفق عليه في الحكومة، بحجّة عدم وجود أموال كافية، وبالتالي ستظهر الدولة مرة جديدة بمظهر الكاذب». موقف لا أحد يمكنه أن يحسد شربل عليه. يلفت الوزير في حديثه مع «الأخبار» إلى أن «الحكومة كانت قد أقرّت مبلغ 35 مليار ليرة سنوياً لمساعدة المزارعين، في إطار مشروع الزراعات البديلة عن حشيشة الكيف، وذلك ضمن خطة تستمر 5 سنوات، إلا أن شيئاً من هذا لم يتحقق للأسف». هذه الخطوة تتضمن تحديد أنواع الزراعات الأخرى التي تصلح أرض البقاع لزراعتها، كما تنص على إنشاء برك مياه للسقي، وسدود مائية في أكثر من منطقة، إضافة إلى دعم رعي المواشي وغير ذلك.
يذهب شربل أبعد، يستفزه الاستمرار في الحديث عن الزراعات البديلة، التي يبدو أنها فكرة ستظل إلى الأبد بمثابة حلم، لينتقل إلى الحديث عن «شرعنة زراعة الحشيشة». يطرح مسألة غاية في البداهة، لكن، لسبب غير مفهوم، تجد أنها تظل في إطار الكلام فقط. يقول: «هناك دول كثيرة في العالم تُزرع فيها المخدرات، حشيشة الكيف تحديداً، مثل تركيا والمغرب، وتلك الدول نظمت هذه العملية على نحو رائع، إذ يزرع الناس تلك النبتة تحت إشراف السلطات، التي بدورها تعود وتشتري منهم محصولهم كل عام». لقد طرح شربل هذا الأمر في إحدى جلسات مجلس الوزراء، علماً أن ثمة خططاً جاهزة في هذا الصدد منذ سنوات، لكنها نائمة في الأدراج. بقي اقتراح شربل مجرد اقتراح. كل وزارة تلقي بالمسؤولية على الأخرى. حسناً أين الخلل وما المانع من المباشرة بهذه الخطط؟ لن تجد من يعطيك جواباً مقنعاً على سؤال كهذا من المسؤولين في لبنان.
الا ان هناك من يمتلك جواباً محدداً ويبدو مقتنعا جدّا به. فالمسألة في رأيه تتصل بالمنظومة التي ترعى الاتجار بحشيشة الكيف. هذه المنظومة التي تمتلك نفوذا كبيرا في الدولة تكسب ريوعا هائلة سنويا. ويدل اصحاب هذا الرأي على مفارقة جديرة بالانتباه، اذ كيف يمكن تفسير تزامن عمليات الإتلاف في الاعوام السابقة مع زيادة ملحوظة في عرض الحشيشة في السوق؟ هذا يدل على نحو واضح على ان هناك من يتحكم في هذه السوق من خلال الانتاج المحلي وتسويقه وتهريبه من لبنان واليه.
لماذا هذه الحماسة من القوى الأمنية كل عام ضد حشيشة الكيف؟ ما هو الضرر الهائل الذي تسببه هذه النبتة أصلاً؟ تجدهم يتعاطون مع المسألة كأنها أخطر من الكوكاكيين أو الهيرويين. في الواقع، كله يرد طبقياً هنا، فالكوكايين مادة أثرياء القوم، أما الحشيشة، فمقدور على شرائها من الجميع، من الطبقة الفقيرة، حيث يمكن استعراض العضلات على هؤلاء والظهور بمظهر فارض الأمن. مسؤولون حكوميون يوافقون على هذا الرأي، بل ويزيدون عليه، فيتحدثون مثلاً عن «زراعة التبغ والتنباك التي كانت ذات يوم ممنوعة، بحسب القانون، إلى أن نظمتها الدولة وصارت تأخذ المحصول من المزارعين... لماذا لا تنظم زراعة الحشيشة على هذا النحو أيضاً؟ ليس في الامر معجزة! يمكن للدولة أن تصدرها الى اسواق لا تمنع تعاطي الحشيشة، او يمكنها ان تُدخل انواعا جديدة من القنّب الهندي الصناعي، ليجري تشجيع صناعات الادوية المحلية وتوريد هذه السلعة الى مصانع الأدوية التي تستخدم المواد المخدرة بكثرة، بل يمكن أن يستفاد منها في صناعات أخرى كثيرة، منها الحبال والقماش والاعلاف».
بقاء كل هذه الأسئلة بلا أجوبة، على بديهيتها، لا يمكن إلا أن يدفع المتابع إلى الاعتقاد بأن ثمة «مافيا» في الدولة تتعمد إبقاء كل شيء على ما هو عليه. هذه «العصابة» لطالما حُكي عنها همساً، حيث تجد أنّ الدولة لبست جدية في إيجاد حلول للمزارعين، وبذلك تبقى تلك «المافيا» مستفيدة من اللاقانون، ومن حركة التجارة غير المشروعة، التي تدر عليها أرباحاً طائلة، اذ كلما ازداد المنع ازدادت الاسعار، وبالتالي الارباح. والدولة لبست قادرة أيضاً على الاستقالة تماماً من دور الشرطي، الذي لا يجد سوى الفقراء لامتطاء ظهورهم، والقول إن ثمّة قانوناً هنا. إنها حكاية حشيشة الكيف في لبنان، التي أصبحت مملة إلى حد القرف، مع سجل ضخم من المواجهات الدامية، التي ستبقى على ما يبدو إلى أمد بعيد... نبتة مغمّسة بالدم. دم اغلى بكثير من تلك الصورة المنمّقة التي تحاول هذه الدولة الظهور بها امام الخارج، الذي يسمّونه «المجتمع الدولي».


يمكنكم متابعة محمد نزال عبر تويتر | Nazzal_Mohammad@