مرسيل خليفة *جاء محمد دكروب، ذلك السنكري الجميل، إلى الثقافة عن طريق الحزب. رغم ذلك، لم يكن حزبياً مطيعاً ومكلفاً بتطبيق خط سياسي متبع، ولا كان مكلفاً بالمساهمة في التناغم الثقافي الذي يرنو إلى السلطة (أي سلطة). كان يسعى إلى التضامن مع المقهورين والمعذبين ومن ثم التشكيك في المبادئ السائدة وتخريبها وإظهار كل ما هو مكبوت بفعل الاجماع الاجتماعي والثقافي من دون التنازل أبداً عن التميّز. لقد تمكّن محمد دكروب من الإمساك بحريته ومهما كانت التضحيات وتيسّر عندها الاحساس الحضاري بجمال هذه الحياة.

بعدما أصبحت عندنا الثقافة في هامش المشهد، أصرّ دكروب على أن يستعيد الطريق وعمل دون كلل، رغم ثقل السنوات، لإصدار المجلة ولو فصلياً. فحرمان المجتمع من البوح الحر سوف يؤدي عبر الوقت إلى صدأ الحساسية الثقافية. غيّر عمقياً في مسالك الرؤية وخلخل الثوابت التي تعرقل فعل الحرية. وبرؤيته لهذه الحرية استطاع وحده تحقيق معجزة الكتابة وعطّل على الحياة استسلامها، وأحدث اختراقاً بسيطاً وسط جمهور اضطهدته وسائل الاعلام. علّمنا محمد دكروب كيف نحمي الثقافة من الفضيحة ونحفظ للذاكرة حرمتها. وفي هذا الخندق الأخير، خندق الثقافة، حاولنا أن نرابط مع قليلين مدافعين عن تلك القيم وأن نصمد في وجه جرافة الانحطاط. أعود إلى الذاكرة، ذاكرة الحرب اللبنانية التي سرقتنا من طفولتنا وشبابنا. أتذكر حينما غادرت للمرة الأولى ذلك المعبر الذي كان يفصل بين المتقاتلين، كانت نظرة دكروب في استقباله لي لحظة المجيء إلى الغربية أشبه بحب خالص، كما لو كان ذلك الأب الحنون. لقد رافقني بنظراته التي أنارت الطريق. وعندما عبرت الجسر، كان ينتظرني على الجهة المقابلة حابساً أنفاسه. وما إن اجتزت الجسر حتى استقبلني بتلويحته الكبيرة وعناقه الصافي. حين أتذكر، تأخذني الرعشة. كانت الحرب في تلك الفترة قد امتدّت إلى معظم أرجاء البلاد، وكانت الرحلة من منطقة إلى أخرى سفراً مرعباً. وهكذا علّمنا دكروب أن الكتابة مثل الحياة وعلينا ألا نكترث بمن يضع أمامها ميزان الماضي لتلفيق الحاضر ومحو المستقبل أو تشويهه. ذهب دكروب إلى الكتابة بطريقة مغايرة، بتجارب تخرج على الطوق والطريق معاً وتخرج من تجربة الحياة الأكثر تأججاً واتصالاً بالمستقبل. بدايات غامضة تشير إلى ذهاب أكثر غموضاً إلى مستقبل لا يزعم الثبات ولا يتطلبه.
يا رفيقي ويا صديقي محمد. أعلم أنك مستاء من الوضع. لا بأس. ضع هذه الوردة على ياقة قميصك واتركها تعطّر أنفاس من يندسون بين ثناياك.
ستضيء ما لا يضاء من عتبات الحنين حينما يشدو البحر ويبكي طائر حيران بين مدينتين، بين صور وبيروت
أكتب عنك اليوم لأني لا أصدق موتك ولأني أحبك. يا محمد، إن العيد يوقد مصباحه للبحث عنك.
* موسيقي لبناني