لم يدخل الروس الميدان السوري من أوسع أبوابه ليخرجوا منه كما دخلوه. التسليم ببديهية هذه الفكرة ضروريّ للخوض في مستجدات المشهد وطرق أبوابه المُشرعة على كثير من المفاجآت، كما يبدو. وريثما ينجلي الغموض بما يتيحُ الانتقال من مرحلة التكهنات إلى مرحلة المعلومات، سيُقال الكثير في أسباب الخطوة الروسية وأبعادها. الثابت أنّ موسكو ليست في وارد التخلّي عن المكاسب التي حقّقتها حتى الآن، وهي مكاسب ابتدأت في مرحلة سبقت الدخول العسكري المُباشر، وتتجاوز الجغرافيا السورية بطبيعة الحال. وكان طبيعيّاً أن يُسارع الكرملن إلى نفي أي علاقة للقرار بـ«الضغط على الرئيس السوري بشار الأسد»، وتأكيد أنّه «جاء اعتماداً على نتائج عمل القوات الروسية» وفقاً للناطق الصحافي ديمتري بيسكوف. وبغض النظر عن مدى علاقة القرار الروسي بالضغط على دمشق، فقد كان النفي متوقّعاً في ظل مصلحة الطرفين في الحفاظ على أي خلاف بعيداً عن التداول. على المنوال ذاته نسجت المستشارة السياسية والإعلامية في الرئاسة السورية بثينة شعبان التي قالت إن «القرار أتى بعد فهم مشترك روسي سوري لطبيعة المرحلة القادمة وضرورة دعم الحل السياسي». وفي تصريحات أدلت بها إلى قناة «روسيا اليوم»، حرصت على تأكيد «ترحيب دمشق بالتنسيق الروسي الأميركي في ما يخص الاستقرار في سوريا والمنطقة». الميدان ما زال أولوية حتميّة في حسابات موسكو، وهو أمرٌ أكّدته وزارة الدفاع الروسية عبر إعلانها أن «سلاح الجو سيواصل ضرب مواقع الإرهابيين في سوريا».
سعت روسيا إلى تجميع أكبر قدر مُمكن من الأوراق
في السياق ذاته، كان مساعد وزير الدفاع الروسي، الجنرال نيكولاي بانكوف، قد أكّد من حميميم أمس أنّ «من المبكر جداً الحديث عن انتصار على الإرهابيين. لدى الطيران الروسي مهمة تقوم على مواصلة الغارات ضد أهداف إرهابية» وفقاً لما نقلته وسائل إعلام روسيّة. وبعيداً عن الضجيج الذي خلّفه القرار الرّوسي في أوساط مجموعات مسلّحة بعينها، وعلى رأسها «جبهة النّصرة» التي «بشّرت» بـ«هجوم كاسح» وشيك، يبدو الرّهان على عودة عقارب الميدان السوري إلى ما قبل أيلول ضرباً من المبالغة. لا يرتبطُ ذلك بحجم التقدّم الذي حقّقه الجيش السوري وحلفاؤه خلال الشهور المنصرمة فحسب، بل يستند أيضاً إلى جملة معطيات وفّرها النشاط الروسي خلال تلك الشهور وعلى مستويات متعدّدة: عسكريّاً، سياسيّاً، وأمنيّاً. ربطُ الميدان بالسياسة كان أحد أبرز النتائج التي حقّقتها موسكو في الملف السوري، وهو أمرٌ كان مفتقداً بصورة فعليّة لأسباب عدّة، على رأسها أن طرَفي الصراع المحليّين (دمشق، والمُعارضة) استمرّا في التعويل على «انتصارات ساحقة» من دون أن يوليا المسار السياسي أهميّة تُذكر. وهو «نهجٌ» تبنّاه أيضاً اللاعبون الإقليميّون على طرفي الاصطفاف. الولايات المتحدة بدورها سارَت أنصافَ خُطى في مختلف الاتجاهات، وهو أمر لا ينبع بالضرورة من عجزٍ، بل يُرجّح أنّه جاء على قاعدة أنّ «الفوضى استثمارٌ ناجحٌ في حدّ ذاتها». ولا يعني هذا أنّ موسكو أرادت أن تحمل السلام على أجنحة القاذفات بطبيعة الحال، بل إنّها سعت إلى تجميع أكبر قدرٍ مُمكن من الأوراق في الساحة السورية قبل أن يدخل الجميعُ في مرحلةٍ يُصبحُ فيها إنهاء الحرب «خيراً لا بدّ منه». وكان من نتائج هذا السعي الخروجُ بعلاقة موسكو مع الأطراف الأخرى في المشهد السوري (من خارج مؤسسات الدولة السورية) من مرحلة التعامل مع شخصيّات بعينها، ومع تيارات تقليديّة، إلى طور التشبيك مع كيانات فاعلة على الأرض. ولعلّ العلاقة مع «قوات سوريا الديمقراطية» ليست سوى «أوضح النماذج» حتى الآن. فالتدخل العسكري المباشر مهّد لإعادة رسم الميدان بصورةٍ أتاحت لاحقاً فرض «اتفاق وقف الأعمال القتالية» بالشراكة مع الأميركيين، وهذا قاد بدوره إلى شكلٍ من أشكال التواصل بين الروس والمجموعات المسلّحة الناشطة على الأرض، وهو تواصلٌ كان مُفتقداً حتى فترةٍ قريبة. ويبدو لافتاً في هذا السياق حجم النشاط الذي سجّله الروس منذ سريان «الهدنة»، وطبيعتُه. وتُفيد معلوماتٌ متقاطعةٌ حصلت عليها «الأخبار» بأنّ مندوبين روسيّين قد جالوا بكثافةٍ خلال الأسبوعين الأخيرين على عدد من المدن بحثاً عن مزيد من الصلات مع «مُعارِضين محليّين» بعيدين عن مساقط الضوء، وممّن تتوافر فيهم مواصفات معيّنة، على رأسها «الوجاهة» و«القبول المُجتمعي». وحمّل المندوبون كلّ من اجتمعوا به رسائلَ وعروضاً لنقلِها إلى «عناصر أيّ فصيلٍ مسلّح يمكن للمعارضين تمرير الرسائل إليه». وحرصَت الرسائل على تأكيد أنّ «الروس لم يأتوا للدفاع عن أحد، بل عن مصالحهم التاريخيّة»، وأنّ «كلّ من يقبل التعاون لوقف إطلاق النار، والبحث مستقبلاً في تسويات تضمن إرساء السلام والتفرغ لمواجهة المجموعات التكفيرية الإرهابية، سيحظى بغطاء روسيّ مع ضمانات كافية». الاجتماعات المذكورة تطرّقت إلى كثير من الملفّات «المُستقبليّة» التي اشتملت عليها أساساً التوافقات الدولية في فيينا، وعلى رأسها «الوصول إلى دستور جديد، وعمليّة سياسيّة حقيقيّة تُفضي إلى انتخابات حرّة ونزيهة». كذلك قدّمت للراغبين في «ركوب القطار» وعوداً بإجراءات كسب ثقةٍ، على رأسها العمل على إطلاق مُعتقلين، والحفاظُ على «خط اتصال ساخن مع قاعدة حميميم للبحث في أي طلب». كيف سيتعامل الروس مع رافضي العروض والرسائل؟ «لقد جرّبوا نيرانَنا»، جوابٌ سمعه أحدُ المعارضين الذين اجتمعوا بمندوب روسي قبل أسبوع. الشقّ الترهيبيّ من الرسالة اشتمل على أنّ «الهدنة لا يمكن أن تستمر إلى الأبد ما لم تتوّج باتفاق شامل، وكل من يعرقل هذا الاتفاق سيجد نفسه مجدّداً في مرمى النار»، وفقاً للمصدر ذاته. هل ستكونُ قائمة «التنظيمات الإرهابيّة» قد نضجَت حينها على وقع التقييمات الروسيّة الأميركية المُشتركة للهدنة والملتزمين بها؟ يبدو هذا الاحتمالُ مُرجّحاً حتى الآن.

«جنيف»... تفاؤل حذر

أصداء الطائرات الروسيّة التي غادرت قواعدها في سوريا، انعكسَت في جنيف وعدد من العواصم العالميّة «تفاؤلاً» مشوباً بالحذر. وزير الخارجية الأميركي جون كيري سارع إلى الإعلان عن زيارة يُزمع القيام بها إلى موسكو الأسبوع المقبل «لمناقشة الأزمة السورية مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين». كيري الذي أكّد «ضرورة الاستفادة من اللحظة الراهنة بدلاً من صرفها»، رأى أن سحب القوات الروسية «ساهم في التوصل إلى مرحلة مهمة جداً في عملية تسوية الأزمة». بدوره، أكّد المبعوث الأممي إلى سوريا ستيفان دي ميستورا أنّ «قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سيساعد العملية السلمية ويساهم في الانتقال السياسي». فرنسا وبريطانيا رحّبتا أيضاً (وكلّ على حِدة) بالخطوة الروسيّة، آملَتين أن تسهم في دفع العملية السياسيّة، فيما أكّد المتحدث باسم «الهيئة العليا للمفاوضات» سالم المسلط أنّ «المعارضة تجد في الانسحاب الجزئي الروسي من البلاد خطوة جيدة ترتبط بمدى تطبيقها ميدانياً». كذلك، أبدى رئيس لجنة التحقيق الدولية الخاصة في سوريا باولو بينيرو تفاؤله أمس «للمرة الأولى، هناك أمل بالتوصل إلى نهاية النزاع»، قال بينيرو من جنيف.