يعتقد «حزب الاتحاد الديمقراطي» الكردي (السوري) أنّه حان وقت القطاف. بذور صغيرة منثورة من الحسكة إلى عفرين نبتت على مراحل. القامشلي بتنوّعها الديني والعرقي أضحت عاصمة سياسية لـ«كانتون الجزيرة». عين العرب (كوباني) الوحيدة أضحى لها أخوة وصلوا إلى حدود الرقة. ومن ريف حلب الحدودي مع جرابلس تمتدّ يد التلاقي نحو عفرين في أقصى الغرب السوري. البذور استحالت «دويلة» اسمها «الإدارة الذاتية»، يحرسها تنظيم واحد هو «وحدات حماية الشعب». تُركت فيها «المكوّنات» ليقول الحاكم: نائبي هنا أشوري، وحليفي هناك عربي، والمتحدث باسمي تركماني... هذه «قوات سورية الديمقراطية» (تأسست في تشرين الأول 2015) تحمي «الصيغة» وتقاتل الإرهاب، بحماية الطائرات الأميركية.سيُجّت «الغابة ــ الدولة» المدنية المحبوبة غرباً، وعُلّقت اللافتة على مدخلها: «روج آفا» ـ كردستان سوريا ترّحب بكم.
واشنطن: لن نعترف بالحكم الذاتي للأكراد في سوريا

أكبر الحالمين من الكرد السوريين لم يتوقّع أن يصل 9% من الشعب السوري (وفق أعلى التقديرات) لإعلان «كيان» يقتطع آلاف الكيلومترات المربّعة من البلاد، من عين ديوار (على الحدود العراقية) إلى عفرين. هذه الدويلة لم تأخذ في الحسبان عشرات آلاف الكرد السوريين، المتمركزين في دمشق ومدينة حلب. هؤلاء «إخوة» في اللغة والثقافة، لكن في النهاية هم أبناء حيّي الشيخ مقصود والأشرفية الحلبيين، ووادي المشاريع («زورآفا») الدمشقي. سوريون كأرمن حلب وشركس الجولان، وأشوريي الخابور.
الظلم اللاحق بـ«مكتومي القيد» والموزعين بين قرى عربية «زُرعت» خوفاً من طموحات «كردستانية» تاريخية، لا تبرّر «سوريّاً» ما يحاول الحزب الكردي الأقوى فرضه. هو يعمل على بناء جسم دولة مستعدّ للتفاوض على أساسه بحكم الأمر الواقع. يريد فرض معادلة بالسياسة والجغرافيا والميدان ليقول: «الأرض لمن يحررها... ونحن بالحدّ الأقصى مستعدون للتفاوض على هذا الأساس».
المسألة ليست فقط بتحكّم حزب «يملك» تمثيلاً أقل من 30% من سكان «إقليمه» بمستقبل البلاد، بل تفوق ذلك إلى لعبة لم ييأس معظم الساسة الكرد من إعادة تجريبها. اللعب على التناقضات الدولية في سبيل كسب ما هو أكبر من «حق». المظلومية الكردية لا تعني هدم كيانات وإعادة تشكيلها بما يبتغي قائد عسكري أو سياسي تأثّر بعبدالله أوجلان أو مصطفى البرزاني.
تطورت طموحات الكرد السياسية بالتوازي مع تمددهم الميداني، فبعد قرابة 26 شهراً (كانون الثاني 2014) من إعلان «الإدارة الذاتية»، أصبح الهدف «الفدرلة». قفزة بقوة الدفع الأميركي وطائراته، وضعت الرجل الكردية في معظم الشمال السوري: من «الشدادي ــ العربية» الغنية بالنفط إلى ريفي الرقة وحلب المختلطين.
العلم الأصفر المزروع في كل بقعة، استحضر «الفكرة» الغريبة تاريخياً عن سوريا... «نحن في كلّ مكان فلنعلنها». إخراج الإعلان حتّم جمع أكثر من مئتي شخصية من المؤيدين للكرد، وللأحزاب التي تعمل تحت سطوة «الإدارة الذاتية»، وبغياب شيوخ ووجهاء للقبائل والعشائر الكبرى كـ«طي والجبور والبكارة»، في مدينة رميلان أمس.
هناك، إلى جانب "المطار" العسكري الأميركي في ريف الحسكة حيث الشعور بأمان «مظلّة التحالف الدولي» تُعطى الشرعية لمقررات المجتمعين. ستعلن «الفيدرالية» (في نهاية المؤتمر اليوم) كمشروع للحكم، وعن «إقليم روج أفا» أو «إقليم الشمال السوري»، في مؤتمر أطلق عليه اسم «سورية الاتحادية ضمان العيش المشترك وأخوة الشعوب».
مصادر من داخل المؤتمر أكدت لـ«الأخبار» أنّ «ممثلي المكونات الأخرى رفضوا إطلاق اسم روج أفا على الإقليم، واقترح اسم إقليم الشمال السوري، حتى لا يأخذ الإقليم صبغة عرقية أو طائفية». وأضاف المصدر أنّ «هذه المكونات طالبت المكون الكردي بضمانات قطعية بأن لا تكون خطوة الفيدرالية، خطوة نحو إعلان الانفصال بكيان مستقل». عضو المؤتمر، والمستشار لـ«الرئاسة المشتركة لحزب الاتحاد الديمقراطي»، سيانوك ديبو أكد لـ«الأخبار» أنّ النقاشات في المؤتمر، الذي ينهي أعماله اليوم، «تشير إلى تبني فكرة الفيدرالية الديمقراطية، بما لا يلغي الإدارة الذاتية، لأنها تشكل مضموناً وصيغة متفقاً عليها مع جميع الأطراف». ورأى أن «من حقهم أن يقدموا للعالم النموذج الذي يرونه الحل الأنسب لعموم المشكلة السورية، كي يكون هناك نظام مؤسس بناء على إرادة المكونات في المنطقة». وعن ربط المؤتمر بمفاوضات جنيف، قال إن «ما يحصل ليس ببعيد عن النقاط الثلاث التي حددها (الموفد الأممي ستيفان) دي ميستورا، وخاصة المتعلقة بالدستور، وبالرؤية للنظام السياسي للبلاد، بل هو مكمِّل وداعم لما يحصل في جنيف، وهي خطوة لا تتعارض مع القرارات الدولية ذات الصلة».
لكن "العقلانية" التي قارب فيها ساسة الكرد السوريين تقويم حجمهم السياسي مقابل الميداني، قد تصطدم بخطأ في التقدير. فالرهان على مظلّة أميركية ــ وحتى روسية ــ داعمة لخطوة «الحكم الذاتي» في ظلّ نظام فيدرالي أو لامركزي، لم يترجم في ردّ واشنطن السريع على ما قد يصدر عن المؤتمر.
المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية، مارك تونر، أكّد أمس أنّ بلاده «لن تعترف بالحكم الذاتي للأكراد في سوريا». وأضاف أنّها «تؤيد وحدة وسلامة أراضي سوريا، وبالتالي لن تعترف بأي منطقة تتمتع بحكم شبه ذاتي تابع للأكراد». وأحال البحث في قضية الأكراد في سوريا على المرحلة السياسية المقبلة، من قبل السوريين أنفسهم. يتصرّف منظمّو المؤتمر على قاعدة أنّ تركيا مردوعة دولياً، والدولة السورية ضعيفة وغير قادرة على تغيير الواقع.
«أوجالانيّو» سوريا يعلمون جيّداً أخطاء إخوانهم في العراق وتركيا. يتكلّمون عن أوهام جلال الطالباني ومصطفى البرزاني. عن قراءة خاطئة للتوازنات الدولية أفضت إلى تشريد آلاف الكرد وقمع انتفاضات. عن «أمّة» لا تعرف التوحّد لكثرة أجنحتها وولاءاتها. يُدركون ذلك، لكن هو «الوسواس»: «نريد دولة».
اليوم، قد يكون الوضع الدولي مهيأً أكثر من أي وقت مضى لكسب «حقوق كردية» في سوريا، حيث قنوات الاتصال مفتوحة من طهران إلى بغداد، وصولاً إلى أوروبا وقلب البيت الأبيض. «يجب تمثيل الكرد في جنيف وفي سوريا المستقبل»، يجزم أعلى مسؤولي موسكو وواشنطن. لكن «ما هو حجم التمثيل»، نسأل سياسياً كردياً، ليجيب باختصار: «لن نصنع تاريخنا إلّا بأيدينا ودمانا».
في عام 1946، أُعلن تأسيس «جمهورية مهاباد» في شمال غرب إيران. «الدُويلة» الكردية المدعومة سوفياتياً عاشت 11 شهراً. كان طرفا الحرب الباردة يخوضان معركة داخل حدود إيران الشاهنشاهية.
«قرأ» كرد إيران التحوّلات، وأعلن الزعيم قاضي محمد (بالتعاون مع مصطفى البارزاني) قيام جمهورية مهاباد بدعم عسكري سوفياتي.
بعد أشهر كانت القوات الإيرانية تهاجم المناطق الكردية بدعم أممي وضغوط على السوفيات للانسحاب. اعتقل محمد وشقيقه صدر، وعشرات من القيادات الكردية، وأعدِم «الرئيس» في وسط «عاصمته».
من المبكر «إطلاق» حكم الإعدام على تجرية «روج آفا». الحرب السورية مستمرّة والكرد أنفسهم قد يتكيّفون على نحو أسرع مع المتغيّرات ليصوغوا تفاهماً مع دمشق والقوى الكبرى تضمن «حقوقهم». سوريا 2016 لا تتّسع لحالمين جدد ولمشاريع «انقلابية» قيد التنفيذ...