قبل أربع وعشرين ساعة من انفجار بئر حسن كانت مراجع امنية تتحدث عن معلومات موثوقة حول سيارتين مفخختين جهزتا في لبنان، وتجري ملاحقتهما بسرية. لم يكن هدف الحديث الاعلان عن السيارتين تحاشياً لاثارة الذعر بين اللبنانيين، لكنه كان تأكيداً على خطورة المرحلة التي يمر بها لبنان وسط كمّ المتغيرات التي يعيشها والمنطقة، وفي ظل الضبابية التي تحكم الوضع السياسية الداخلي.
لم يثر التفجيران، بهذا المعنى، أي مفاجأة أمنية، ولو ان المعلومات الاولية تشير الى ان السيارة التي انفجرت لم تكن ضمن لائحة السيارات الملاحقة، الا انهما خلقا نقلة نوعية في مسار الاحداث الامنية في البلد، وسط جملة مؤشرات سياسية وأمنية:
أولاً، ظلّ بعض المتابعين السياسيين الجديين لمسار التطورات بين ايران والولايات المتحدة حذرين تجاه موجة التفاؤل التي سادت (او حتى الشعور بالهزيمة) بأن عصراً جديداً بدأ في المنطقة، يرتكز على تفاهم ايراني ــــ اميركي يعيد ترتيب الشرق الاوسط. ومردّ هذا الحذر أن دولاً اخرى لا تنظر بارتياح الى ما يحصل على خط طهران ــــ واشنطن، ومنها اسرائيل وفرنسا، والاهم هناك السعودية. كما أن هناك قوى وتنظيمات اسلامية ترى في العلاقة الاميركية ــــ الايرانية وتورط حزب الله في سوريا هدفاً للتصويب عليه. وبالتالي، لم يكن ممكناً إلا توقع ان يصل الصراع بين المحورين المختلفين الى الحدّ الذي وصلت اليه الحال في لبنان. ورغم انه سبق لايران ان اتهمت بمحاولة اغتيال السفير السعودي في واشنطن عادل الجبير، الا ان استهداف السفارة الايرانية في قلب بيروت تعدّى معنى الصراع التقليدي، ليؤسس لمرحلة خطرة في المسار اللبناني، لأنه يعيد لبنان الى «نموذج بغداد» الذي حاول جاهداً الا يتورط فيه. من هنا، قرأت بعض الاوساط امكان ان يكون الانفجاران عشية المحادثات الايرانية ــــ الغربية لافتا في توقيته. لكنها، ايضاً، رأت في ردّ الفعل الدولي المندّد بالانفجار، وتحميل ايران اسرائيل مسؤولية التفجير، تأكيداً ايرانياً باستمرار مفاوضاتها مع واشنطن من دون اي تراجع.
ثانياً، بعد انتهاء موجة الاستنكار من جانب فريقي 14 و8 آذار، ومن تحميل كل طرف للطرف الآخر بادخاله حرب سوريا الى لبنان، ثمة ما هو أعمق في ضرورة الذهاب الى مراجعة دقيقة لما شهدته الاسابيع الاخيرة، من تصعيد كلامي بلغ حدّه الاقصى في التعامل مع الحدث الاقليمي على انه انتصار لفريق وانكسار لآخر. فما حصل في بئر العبد، وبعده في طرابلس، كان لا يزال بمثابة رسائل تحذيرية. لكن ما حصل في بئر حسن له مفهوم آخر. وتبعاً لذلك، ستكون الساحة السياسية التي يتحمل الطرفان المعنيان مسؤولية تجييشها، من الآن وصاعداً، عرضة لانعكاس المسار التصاعدي في الخطاب وفي ترجمته بالدم، وخصوصاً في ظل انعدام التوازن الداخلي وفي غياب السلطة السياسية الفاعلة. ولعل اسوأ ما يمكن ان يحصل هو السؤال البديهي: ماذا بعد بئر حسن؟ وأين سيكون الرد؟ وهل من حلقات جديدة وسط مخاوف الا تكون اي منطقة عصية على التفجيرات، فيكون الهدف تعميم الفوضى وعدم حصره في الصراع السني ــــ الشيعي على سوريا.
ثالثاً في الأمن: ركّزت التحقيقات الامنية بعد انفجار بئر العبد في تموز الماضي، في اولى لحظاتها، على فرضية الانتحاري ثم سحبت من التداول. قيل يومها ان اي عملية انتحارية ستكون وخيمة في مردودها السياسي والامني على لبنان، لجهة تطور الصراع فيه الى ما يشبه الوضع العراقي. وحين تأكد ان الانفجار لم يكن انتحارياً، ساد جو من الارتياح بأن لبنان لا يزال محكوماً بمظلة أمنية عربية ودولية، تحفظ استقراره بالحدّ المقبول. اليوم، ومع تأكيد وجود عمل انتحاري، تنتقل الساحة اللبنانية الى مرحلة جديدة من الصراع الاقليمي ـــ السوري، تصبح فيها ساحة مفتوحة لاحتمالات العرقنة بكامل وجوهها.
وبغض النظر عن حقيقة هوية التنظيم المسؤول عن التفجيرين، فإن مجرّد تنفيذ عملية انتحارية، يعني ان ثمة قراراً على مستوى عال بالرد في لبنان والعراق الذي شهد قبل عاشوراء سلسلة اعمال تفجير. والاستنفار الامني الذي شهدته المناطق أثناء إحياء ذكرى عاشوراء في لبنان كان معبّراً في حيثياته. والخلاصة الاهم لما حصل امس، هو ان الامن الذاتي والمناطق المقفلة امنياً، لن تكون عصية على الانتحاريين، وان الحواجز والتدقيق الامني لا ينجح في وقف هذا المسار. وهو الامر الذي سبق ان شهده العراق في اكثر المناطق الامنية والدينية تشدداً في الامن.
رابعاً: ورد في تقرير امني غربي تداولته دوائر سياسية معلومات انه بعد الخلاف بين «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش»، وبعد التجاذب حول كلام لزعيم «القاعدة» ايمن الظواهري بحل «داعش» ورفض أميرها «ابو بكر البغدادي»، فان عناصر من «داعش» بدأت تتحرك في اتجاه العراق، ومن المحتمل لبنان، في محاولة لتوسيع اطر حركتها وقاعدتها في الدول المجاورة لسوريا مع ما يحمل ذلك من تطور مفصلي في اوضاع عدد من دول المنطقة والعبث باستقرارها. وهذا يعني ان لبنان سيكون، في ظل الصراع الحالي وتورطه في حرب سوريا ووضع حدوده، باباً مفتوحاً لاستجلاب عناصر أصولية اليه للردّ على مشاركة حزب الله في حرب سوريا. وكذلك فان اعلان «كتائب عبد الله عزام» (التي لا تعرف لها علاقة جيدة مع الرياض بل العكس) مسؤوليتها عن التفجير، طرح علامة استفهام حول امكان ان يكون ثمة قرار على مستوى هذه التنظيمات بتطويق دور ايران وحزب الله، والتخفيف من حجم مشاركتهما في سوريا، ولا سيما في معركة القلمون الحيوية، ما يعني احتمال اللجوء اكثر الى هذه الاساليب.
خامساً: لا شك في ان الوضع الامني في طرابلس وعرسال سيكون من الان وصاعداً مفتوحاً على كثير من التحديات الامنية والسياسية، فضلاً عن وضع المخيمات التي وضعت اخيرا في دائرة الرصد خشية تسرب مجموعات اصولية منها واليها. وخطورة وضع المنطقتين ان هناك مسؤوليات متداخلة سياسية وأمنية لجميع الاطراف الذين يتركونها عرضة للاستثمار السياسي. وكذلك فان الخطورة تكمن في عدم القدرة على النفاذ من شبكة الصراعات الاقليمية، في اكثر منطقتين معرضتين للخطر، من دون حكومة ومن دون سلطة سياسية فاعلة قادرة على ازمة بحجم ازمتي طرابلس وعرسال المتداخلتين بكل تفاصيلهما الامنية والجغرافية مع سوريا.
سادساً: تفاقم قضية النازحين السوريين في الايام الاخيرة على خلفية تطورات القلمون، وهي قضية تحتاج الى التعاطي معها على مستوى شامل، لا على مستوى صناديق الاستثمار السياسي والمالي. فالقضية، بعيداً عن الضرورات الانسانية، تساهم في ايجاد قنابل موقوتة وفي ايجاد مناخات ستساهم تدريجاً في اشعال التوتر.