لم تحتج الرسالة كبير عناءً لتُقرأ بوضوح. أصلاً لم يسع مرسلها الى إخفاء هويته. على العكس. حمّلها توقيعاً وختماً. الأول، من تنظيم «القاعدة»، والثاني من الرياض نفسها. والمضمون بات معروفاً: نحن هنا. ويُخشى أنها الأولى في سلسلة. ثلاثة عناصر مفصلية توقف عندها المعنيون في تحليلهم للاعتداء على السفارة الايرانية أمس: الأسلوب والهدف والتوقيت. صحيح أن التفجير حصل في سياق محاولات لم تهدأ، منذ أشهر، لتنفيذ تفجيرات في الضاحية، ومما لا شك فيه أن واحدة منها كانت ستجد ثغرة أمنية تنفذ منها، كما حصل في تفجيري بئر العبد والرويس. لكن ما حصل أمس كان تطوراً في مستوى الخطر.

إذ دخل فيه العنصر الانتحاري، علماً أن تحريك «كادر» تكفيري لتنفيذ عملية بهذا المستوى يحتاج إلى قرار وترتيب من نوع مختلف. وهذا النوع من العمليات، على ما تبين خصوصاً في العراق، هو الأكثر خطراً، وعلاجه بالاجراءات الوقائية ذو فعالية متدنية جداً.
كما أن هدف الاعتداء. لم يكن عشوائياً، على غرار التفجيرات والمحاولات السابقة. كان هدفاً منتقى بعناية: مبنى السفارة. وهو، بحسب القانون الدولي، أرض تخضع للسيادة الإيرانية، أي أنها مثلها مثل طهران في قيمتها المعنوية. وبغض النظر عما إذا كان في نية المفجرين اغتيال شخصية إيرانية رفيعة المستوى، على ما روّج بعض وسائل الإعلام أنه كان السفير غضنفر ركن أبادي الذي كان مقرراً أن يغادر قرابة وقت التفجير إلى موعد في بيروت، فإن أصل استهداف السفارة، بحسب بعض المعنيين، هو أشبه بقرع على الباب يريد القائم به القول: انتبهوا نحن هنا.
يبقى التوقيت، الذي يصادف عشية استئناف مفاوضات جنيف حول المشروع النووي الإيراني، وفي هذا الكثير من الدلالات. في «جنيف 2» الإيراني، بات معروفاً أن المفاوضات تمت بين فريقين لا ثالث لهما: إيران والولايات المتحدة، على رغم أن إطار التفاوض هو مجموعة «5+ 1». وبات معروفاً أيضاً أنه في اليوم الثاني من تلك المفاوضات توصل الجانبان، الإيراني والأميركي، إلى اتفاق على نحو 90 في المئة من القضايا الخلافية، على ما أفاد وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف. لكن الموفد الفرنسي دخل بقوة على الخط، بالتهديد تارة وبالتحذير تارة أخرى، ونجح في إدخال تعديلات على مسودة التفاهم دفعت الوفد الإيراني إلى تعليق المفاوضات في انتظار مراجعة طهران.
أفلحت باريس في أن تجد لنفسها موطئ قدم في التسوية الإيرانية ـــ الأميركية المزعومة. في النهاية، قرأت الواقع جيداً، وهي تستعد لأن تملأ بعض الفراغ الذي ستخلفه إعادة التموضع الأميركي في المنطقة.
في المقابل، يبدو ان الرياض لا تزال تلعب على الهامش. كل محاولاتها في الأشهر الماضية لفرض وقائع ميدانية تعطيها حصة من كعكة التسوية في المنطقة ذهبت أدراج الرياح. التطورات الميدانية السورية، وآخرها تحرير بلدة قارة في القلمون، خير مؤشر. كذلك الأمر بالنسبة الى محاولاتها تعطيل «جنيف ايران» و«جنيف سوريا». تبدو رياح التفاهمات أعتى. كان لا بد لها من حركة ميدانية من طراز آخر. رسالة إلى المعني المباشر في الطرف الآخر، بلا مواربة، تتوعّده بقلب الطاولة وإسالة أنهار من الدماء.
السؤال المركزي لدى المعنيين الآن: ماذا بعد؟ والسؤال الأكثر عملياتية يصوّب نحو الرياض نفسها. إلى متى ستبقى في منأى عما يجري؟ تتسبب بالمآسي ولا ثمناً تدفعه سوى حفنة من الدولارات أشبه بكومة من الأوراق الملونة بالنسبة لأولي الأمر في السعودية.
المعنيون في طهران يحمّلون جناحاً متشدداً في السعودية مسؤولية كل النشاط الدموي في المنطقة، في إشارة إلى بندر بن سلطان وسعود الفيصل وتركي الفيصل.
المعلومات المتوافرة لدى الدوائر المختصة تفيد بأن الثلاثي المذكور بات مقتنعاً بأنه سيصبح خارج أروقة الحكم السعودي ما أن يغمض الملك عبد الله جفنيه، خصوصاً وأنهم خسروا في كل رهاناتهم الإقليمية
أيا يكن من أمر، فإن ما جرى أمس تجاوز كل الخطوط الحمر. اعتداء على إيران نفسها، مجسّدة بسفارتها في بيروت. الرسالة وصلت جليّة إلى طهران. يبقى ترقب ما سيكون عليه الرد الإيراني، اسلوباً وهدفاً وتوقيتاً!