«الاسم جميلةُ بوحيرد/ رقم الزنزانة تسعونا/ في السجن الحربيّ بوهرانْ/ والعمر اثنان وعشرونا/ عينان كقنديليْ معبد/ والشَعرُ العربي الاسود/ كالصيفِ ... كشلالِ الاحزانْ». من المراهقة السحيقة تأتي قصيدة نزار قبّاني. كانت الكلمات تملك قدرة سحريّة على قولبة الوجدان، وصياغة الوعي. وكانت جميلة ابنة القصيدة، رمزاً رومنسياً لتلك الثورة التي ترتقي بك من وحول الحرب الأهليّة اللبنانيّة وأهوالها آنذاك، إلى زمن بطوليّ، إلى عالم طوباويّ وجميل، الصراع فيه بين مظلوم وظالم، بين شعب موحّد وجيش محتل.
جميلة التي خصّها يوسف شاهين بأحد أفلامه في أوج سنوات الحلم الناصري، تأتينا دائماً من جهة الثقافة والابداع. مع الوقت اكتشفنا تعقيدات الواقع، وتشعباته، وتعلّمنا أن الثورات ليست ورديّة دائماً. دخل بلد المليون شهيد العشريّة السوداء، سقطت أوراق توت كثيرة، وخيّم شبح الاستبداد على المشهد الجزائري عقداً ونيّف. الاستبداد، وفي المقلب الآخر من المرآة ـــ صنوه الأبدي ـــ كابوس التطرّف والتزمّت والعنف التكفيري. وسال دم كثير. لكنّ صورة الجزائر بقيت نفسها: البلد الذي جاهد أبناؤه ببسالة وعناد ضدّ الاحتلال، واستعادوا سيادتهم وهويّتهم وحقّهم في التحكّم بثرواتهم ومصيرهم. وواصلت جميلة إقامتها في مخيّلتنا، شفيعة معاركنا الوطنيّة ضدّ استعمار متعدد ومتجدد، لم يرفع يوماً يده الآثمة عن الأرض العربيّة. اليوم يحتفي لبنان مع محطّة «الميادين» بالصبيّة السمراء التي «جلدت مقصلة الجلاد». مناسبة كي نذكّر بأن الجزائر في القلب، وكي نقف إجلالاً للمناضلة، ونحيّي المرأة من خارج الأسطورة. «ثائرة من جبل الاطلس/ يذكرها الليلك والنرجس». بطلة عاديّة من عامة الشعب، وقفت خلال زيارتها السابقة للبنان (2009) عند بوّابة فاطمة، مع بطلة أخرى من رموزنا المضيئة هي ليلى خالد، وقذفت جنود الاحتلال بالحجارة، كما لتذكّرنا بأن التاريخ خارج المتاحف والكتب، هو ذاك الذي نصنعه اليوم، وأن الصراع لم يتوقّف ضدّ الاستبداد ومن أجل الحقوق الشرعيّة. هذا الدرس ذكّرنا به أيضاً في بيروت، على طريقته، رفيق دربها ومحاميها الذي انتشلها من الاعدام أيّام احتلال الجزائر، المحامي الفرنسي الراحل جاك فيرجيس. جميلة هي كل الفتيات العربيات اللواتي يكتشفن الآن العمل السياسي والوطني، ويناضلن من أجل التقدّم والعدالة، من أجل تحرير الأرض والانسان. جميلة هي كل المناضلات اللواتي يبلغن اليوم عمرها حين اعتقلها «لاكوست وآلاف الأنذال/ من جيش فرنسا المغلوبة». وتشاء سخرية القدر أن نكتشف خلف قناع «الربيع العربي» المشقق، أنياب فرنسا الاستعماريّة، أكثر من نصف قرن بعد انتصار ثورة التحرير في الجزائر. جميلة بطلة راهنة، ووجودها بيننا تحيّة للمقاومة التي يستميت العالم (الحرّ) لإخضاعها. لكن سدىً.

يمكنكم متابعة بيار أبي صعب عبر تويتر | PierreABISAAB@