تعتبر جميلة بو حيرد (1935) المرأة الأكثر شهرة في التاريخ العربي الحديث. تحولت إلى رمز ثورات التحرر خلال الخمسينيات من القرن الماضي، وحركت الرأي العام العالمي لصالح الثورة الجزائرية. منذ تعرضها للتعذيب الوحشي على يد الاستعمار الفرنسي بعد القاء القبض عليها عام 1957، لم تحظ أي إمرأة مثلها بإهتمام المؤرخين والشعراء والسياسيين والفنانين الذين خلدوا نضالها، لتتحول أسطورةً طيلة نصف قرن من الغياب والتغييب. تكريمها اليوم من قبل قناة «الميادين في «قصر الأونيسكو» في بيروت يبعث أكثر من رسالة أوّلها أنّه يعيد توجيه البوصلة إلى القضية الأساس في زمن الحروب الأهلية.
اختلفت التأويلات عن أسباب انعزال الأسطورة الجزائرية عن الحياة السياسية والإجتماعية بعد الإستقلال عام 1962الذي شهد أيضاً إطلاق سراحها من سجون الاحتلال الفرنسي. تمنعت طويلاً عن الظهور خلال المناسبات الرسمية أو الحديث في وسائل الإعلام، ورجح البعض أنّ ذلك يعود إلى هيمنة الفكر البطريكي على الساحة السياسية الجزائرية الذي عزل المرأة عن مقاليد الحكم، فيما عزى بعضهم ذلك إلى رغبة جميلة بالتفرغ لحياتها الأسرية بعد زواجها مع محاميها الفرنسي الشهير جاك فرجيس (1925ــ 2013) قبل أن يتطلّقا عام 1975 مع طفلين هما مريم والياس، بينما ذهب آخرون إلى التأكيد بأنّ انعزالها يعود إلى الحملة التي انتقدت زواجها تحت ذرائع إجتماعية وعقائدية، متناسين مساهمة فرجيس في تدويل قضية الثورة الجزائرية ودفاعه عن المحكومين عليهم بالاعدام. كانت جميلة واحدة منهم. كتب فرجيس نصّ محاكمتها في كتابه الشهير «من أجل جميلة» بعدما فشل في إنقاذها من حكم الاعدام خلال المحاكمة الشهيرة في 15 تموز (يوليو) 1957بعد إدانتها مع مناضلين آخرين بوضع قنابل يدوية في مقهى للأوروبيين في مدينة الجزائر. حكم أدى إلى تنديد جماهيري في كل دول العالم، وثار ضده كبار المثقفين والفنانين والسياسيين... لتضطر فرنسا آنذاك للاستجابة لقرار الأمين العام للأمم المتحدة داغ همرشولد وإبطال حكم الإعدام، فخرجت جميلة من السجن عام 1962.
لا يختلف اثنان أنّ جميلة بو حيرد قاطعت الصحافة نهائياً بعد نشر كاركاتور في جريدة جزائرية في بداية الاستقلال، يظهرها حاملاً بطفل يعتمر قبعة مظلي (جندي في الجيش الفرنسي). دخلت المناضلة دائرة النسيان، حتى اعتقد كثيرون أنها شهيدة، بل أُطلق اسمها على بعض المؤسسات. وفي عام 2009، فوجئ الرأي العام العربي والدولي، برسالة نداء نشرتها جميلة في الصحافة المحلية تدعو فيها الشعب الجزائري لمساعدتها للعلاج وتشكو حالتها الإجتماعية، مما أدى إلى احتفاء كثيرين بشجاعتها وصراحتها. وسط تواطؤ اليأس الجماعي والسبات السياسي والإجتماعي الذي لم تعرف له الجزائر مثيلاً في تاريخها، تجرأت جميلة على كشف الواقع المأساوي الذي يعيشه مناضلو الثورة الجزائرية، وما يتعرضون له من تغييب وتضييق ونفي منذ الاستقلال. للمرة الأولى، فتحت جميلة ملفات تكشف حقائق وأسراراً عن سلسلة الاعدام والاغتيالات التي طالت شخصيات ثورية على يد النظام الجزائري بعد الاستقلال، تلك المواضيع التي كان محرمة وممنوع الخوض فيها أو تناولها إعلامياً.
منذ عام 206، حاولت جميلة أن تخرج تدريجاً إلى الضوء، فاستقطبت الأضواء في مختلف الفعاليات الثقافية التي حضرتها رغم تفضيلها البقاء في الظلّ، والجلوس في آخر الرواق. تحدثت الصحف العربية والعالمية عن سفرها إلى مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في سوريا ولبنان عام 2009، كما تناولت وسائل الإعلام الجزائرية والأجنبية عام 2011 الاحتجاج الذي قادته جميلة في حييها وسط العاصمة الجزائرية مع جيرانها أمام جرافات الحفر وقوات الأمن للتصدي لقطع الأشجار، وتقدمت أيضاً صفوف تظاهرات قام بها طلبة كلية الطب مرتدية مأزراً أبيض. وفي حمى الربيع العربي، تحدّت مرضها وشاركت مع نشطاء حقوقيين ومعارضين للمطالبة بالتغيير وحرية التعبير والممارسة السياسية.
لم تسلم جميلة بو حيرد من الشائعات خصوصاً وفاتها. منذ فترة، تناقلت وسائل الإعلام الجزائرية والعربية ومواقع التواصل الإجتماعي شائعة وفاتها الخبر، لتخرج عائلتها لتكذيبه، مما دفع بو حيرد إلى التصريح لجريدة «الوطن» الجزائرية منتقدة بلهجة شجاعة وقوية الواقع السياسي الذي تعيشه البلاد. هددت الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة بالخروج ضده إلى الشارع للتنديد بترشحه لولاية رابعة، وأكدت أنها ستتظاهر ضد الفساد ونهب ثورات البلاد وتفشي الرشوة واللاعدالة وعدم محاسبة المتهمين في سرقة ونهب المال العام. ونددت أيضاً بالتضييق على الجمعيات الحقوقية والحريات في الجزائر، كما واصفةً في تصريح آخر الجزائر بأنّها «كانت جنة والآن أصبحت جهنم». وانتقدت الحزب الحاكم في البلاد، وحزب «جبهة التحرير الوطني»، واصفةً أعضاءه باللصوص الذين سرقوا شرعية الحزب وشوهوا تاريخه.
عودة قوية لايقونة الثورة الجزائرية وتصريحات نارية أجّجت الصحافة المحلية، بل أدت إلى نشوب حرب افتراضية على شبكات التواصل الإجتماعي، وارتفعت نداءات تطالب جميلة بالترشح لرئاسة الجزائر في الانتخابات القادمة عام 2014.