إعداد: سيد محمود

رازي نابلسي*
ومن ذا الذي يجرؤ على أن يتهم الشاعر بالموت؟ نهضت اليوم من فراشي. ككل يوم، أتفحص شبكات التواصل الاجتماعي. وإذا بي أرى خبر وفاة جسد شاعر العامية الثائر الحر، أحمد فؤاد نجم. فما كان مني سوى النظر نحو مكتبتي، فوقع نظري على غلاف «أحمد فؤاد نجم ــ الأعمال الكامله». ابتسمت وقلت: لا يعقل أن يموت، لقد كتب للثورة، للحرية وللشعوب، لقد كتب للاحرار، فمن ذا الذي يجرؤ على أن يعلن موته؟

لقد تعرّفت إليه في السادسة عشرة من عمري، رافقني في الأيام الطيبة وفي الأيام السوداء. قبل النوم، كان يقول: «بستنظرك». وفي الصباح الباكر: «أنا الشعب ماشي وعارف طريقي». 
أكثر ما كان يستفزني أحياناً، حين كنت أسمع بعضهم يردد قصائده بصوت بارد. من كتب للقلب والثورة، عليك أن تسمعه وتردده من القلب والثورة. أحمد فؤاد نجم، يا من كان رفيق دربنا. لم أحضنك يوماً، وحضنتنا جميعاً. 
ما زلت أحلم بالعودة والثورة والشعب حين يقول: «أنا الشعب ماشي وعارف طريقي». وما زلت أسمعه يقول: «يا مصر لسا عددنا كبير». من هو ذا الذي يجرؤ على أن يعلن موت من كتب الخلود. لم أره يوماً، بل قرأت وسمعت وشعرت وحلمت بأن تكون كلماته أذان ثورتنا، وأجراس العائدين. 
تموت الأجساد يوماً بعد يوم، وكما كان إمام الثورة في ميدان التحرير يوم «٢٥ يناير»، سيكون الفاجومي الإمام في كل ميدان تحرير. أنا على ثقة بأن من يبكي اليوم، هو فقير، مظلوم، أسير، عامل، طالب في ميدان التحرير وثائر قد وضع بندقيته على كتفه وقال: يا فلسطينية، والثورة هي الأكيدة. 
* ناشط فلسطيني

محمد محسن*
في يوم 28 كانون الثاني (يناير) 2011 المعروف بـ«جمعة الغضب»، وبعدما هدأت حدة المسيرات والاشتباكات، توجهت ليلاً إلى «دار ميريت» في وسط البلد. هناك، التقيت الناشر محمد هاشم و«عم نجم»، توجهنا قرب منتصف الليل إلى ميدان التحرير. في ذلك المشوار القصير إلى الميدان، كنت مبهوراً من فكرة مجاورتي لهذا الشاعر العظيم. وبفضل أحداث اليوم الرهيبة، ولقربي من «الفاجومي»، تملّكني شعور بأن مشروع نجم الثوري الذي صاغه شعراً عبر سنوات نضاله برفقة الشيخ إمام ماثلٌ أمام عيني في الميدان، بل رأيته يتحقق. كانت تلك لحظة فارقة بالنسبة إليّ، ولنجم نفسه. ها هو يرى حلمه بالثورة والحرية على وشك الاكتمال. ليلتها، شدني «عم نجم» من يدي وصعد معي إلى المنصة (كانت تلك أول منصة تُنصب في الميدان) ثم غنينا معاً أمام الحشود. صدحنا بـ«مصر يامّه يا بهية» وهي أول أغنية أغنيها في «التحرير» بعد نشيد «بلادي بلادي». أثناء تلك اللحظات الرهيبة، وبينما أغني مع نجم، أمام حشود غفيرة، شعرت بأننا اختصرنا عشرات السنين من النضال، أمام الملايين بعد يوم 28 الاستثنائي، ورأيت الأجيال وهي تلتقي في حب مصر.
الحقيقة أنني وغيري من الفنانين الشباب، نعيش على مذهب شيخ الطريقة «عم نجم»، هو وشريك دربه الشيخ إمام. نحن نستمد منه الأمل، من أشعاره وأغانيه وإيمانه الثوري النقي. كنت كلما نظرت إليه، أتساءل: إذا كان نجم في هذه السن المتقدمة وما زال يمتلك كل هذه الحماسة، فماذا نفعل نحن الشباب؟ علينا ألا نيأس. نجم كان بمثابة منبع أمل بالنسبة إلينا. فقد كان رحمه الله دائم التشجيع لي، وكان يقول لي عادةً: «استمر يا محسن.. فأنت صوت أصلي». ولطالما نصحني بألا أتخلى عن حلمي.
أذكر أنّي زرته مرة في بيته في المقطّم برفقة الروائي والشاعر أحمد العايدي، وعازف العود اللبناني رامي يعسوب. ليلتها، تسامرنا معه لساعات، وحكى لنا عن بيرم التونسي، وبديع خيري، وسيد درويش وزكريا أحمد. استعدنا تراثنا الموسيقي والشعري، فغنينا وحكى لنا، ولا أبالغ إن قلت إنّ مثل تلك الجلسات أسهمت في تشكيل وعيي الثقافي.
أحمد فؤاد نجم كان يكتب مقالات في دوريات ومطبوعات عدة، وقد حرص على تقديمي أنا ومجموعة من الفنانين والأدباء الشبان مثل مصطفى إبراهيم، ومايكل عادل، وأحمد عبد الحي، وأحمد مجدي همام، ومحروس أحمد، ولم يتوقف دعمه عند هذا الحد. فقد كان أحد أحلامي منذ أن بدأت مشواري الفني، أن أغني في دار الأوبرا، وفي المرة الأولى التي أتيح لي فيها تحقيق هذا الحلم بالغناء في «مهرجان الموسيقى العربية» في أواخر 2012، فوجئت بـ«عم نجم» حاضراً في الصفوف الأولى، ويومها، غنيت لحن «الحشّاشين» لسيد درويش في الافتتاحية، وأهديتها إلى ذلك الرجل الذي لم يكف عن دعمي وتشجيعي أنا وكل أبناء جيلي.
قد يظن البعض أن حبي لذلك الرجل بسبب وقوفه إلى جانبي. لكن الحقيقة أن الجميع كانوا يحبونه، فقد كان مثلا طرفاً رئيسياً في أغلب جلسات الصلح التي تُعقد بين الفنانين والأدباء في الدوائر الثقافية المختلفة، ويكفي أن تسأل رجل الشارع البسيط عن نجم لتسمع مجموعة الردود المعروفة: «راجل دماغ وشاعر عبقري». ولذلك أرى أن لقب «شاعر الفقراء» مستحق وواقعي جداً. الجميع يعشقون نجم. لقد فقدنا فعلاً قامة ثقافية وقيمة وطنية كبرى. رحم الله أحمد فؤاد نجم.
* فنان مصري
صاحب ألبوم «اللف ف شوارعك»


وحيد الطويلة*
ربما هو الوحيد الذي رحل راضياً ضاحكاً مبتسماً. رحل بعدما رأى قصائده انتصرت وغردت مع أرواح البشر والشهداء في كل ميادين مصر. رحل مطمئناً إلى أن أناشيده ستستمر ما دامت هناك ثورة بالعربية، أو ما دام هناك من يحلم بها. في كل مكان يصادفك عربي في العالم العربي أو خارجه، ستجد أن نجم ابن الايه حاضر يؤنس ويلسع، لسان من لا لسان له. عند كل سلم، سوف تقابلك ضحكة أحمد فؤاد نجم طالعة بالبشر والحياة والأمل والقدرة على مواجهة الحياة. الجماعات تختار منشدها، ومصر اختارت نجم منشدها لعقود طويلة وستظلّ.
* روائي مصري

محمد ربيع*
أخبرني صديق، منذ ما يقرب 20 عاماً، أنَّ أحمد فؤاد نجم شاعر شهير، قضى نصف عمره في السجون. كان يخرج من سجن ليدخل الآخر. صديقي هذا لم يكن يقرأ كثيراً. على العكس، وكنت أنا في أول طريق القراءة. بعد كلامه هذا، قرأت نجم وصلاح جاهين، وانشغلت بالنثر فلم أقرأ شعراً لغيرهما إلا بعد سنوات طويلة. وبقيت طاقة شعر نجم ماثلة في ذهني. نعم، نجم شاعر سليط اللسان، وما الشاعر إلا لسان كالخيزرانة. أذكر أنّ أحدهم حكى لي ما قام به نجم أثناء إلقائه قصيدته «البتاع». صاح بالبيت قبل الأخير «عيِّن حَرَس ع البتاع» ثم شَخَر شَخرةً قصيرةً حادةً وأكمل «وبرضو مات مقتول». والشخر، لمن لا يعرفه، صوت يأتي من سحب النفس من الأنف مع الاحتفاظ بالفم مفتوحاً. وهو علامة على سوقية الشاخر وانحطاطه. كان نجم يقصد السادات بقوله «عيِّن حرس». والحقيقة أنّ السوقية الموجهة إلى السادات، ولكل حاكم مصري، هي سوقية محترمة، جعل الله شخرة نجم في ميزان حسناته. إلا أن الفقد قد يأتي بلا وجع، تألَّم معظم من أعرفهم لفقد «أبو النجوم»، بينما ضحكت أنا وقلت: وهل يموت نجم؟ عاش حياته كما أراد، حراً من كل قيد، ساخراً من كلِّ سلطة، لا يهاب الحبس، ولا يعترف إلا بالناس وبمصر، بلا شوفينية بغيضة، وبلا أدب مصطنع. يا ليتنا نعيش حياتنا مثلما عاش نجم.
* روائي مصري

أسماء ياسين*
زمان، وأنا صغيرة كانت «المزيكا» والأغاني ممنوعة في بيتنا، «عشان حرام»! رغم ذلك، كانت شرائط الشيخ إمام وقصائد أحمد فؤاد بصوته موجودة عندنا. سمعناها عندما كنّا أطفالاً، ولم نكن نفهم أي شيء منها، لكن كنا نضحك ونتحمس، ونحس بأنه «كلام موزون وله معنى». ثم تغيرت الأمور، وكبرنا. شخصياً، أصبحت أرى شعر نجم بطريقة أخرى. وإكراماً للأيام الخوالي، أعدتُ فرزه، واستخراج الشعر الخالص منه، بعيداً عن الطنطنة والحماسة. قبل «ثورة يناير»، كان أحمد فؤاد نجم بالنسبة إليّ شاعراً عظيماً، لكن بعيداً عن الشعر الحماسي. وبعد «يناير»، كانت أغاني نجم والشيخ إمام في سماعات المنصّات هي التي تحمّسنا في برد الميدان ليلاً، وعاد الشعر، ثانية، بصوت أعلى. مرة. أعلم، يقيناً، أنّه كي تحب شاعراً، يفضل ألا تتعرف إليه شخصياً.
لكن ليس في حالة نجم. لا أظنّ أنّ التاريخ سيكون قادراً على التعامل مع نجم من خلال نصوصه فقط، مغفلاً حياته وأسلوبه وتاريخه المزدحم المتناقض الثري، ولكن شئتُ أو أبيت، قاومت أو استسلمت، وخصوصاً إزاء مواقفه السياسية الأخيرة، الاعتراف بشاعرية أحمد فؤاد نجم، سيظل جزءاً من تاريخ علاقتي بالوطن وبالعامية.
* كاتبة مصرية

دنيا مسعود*
هي دي حكايتك معايا، شوف بقى قلبي وجنونه؟! بيني وبينك يا باشمهندس عاوزيني أجيب ف سيرتك واكتب بقى بالنحوي عن الشعر والحركات دي. طب ده كلام بذمتك؟! طب ايش أوصلني أنا أجيب ف سيرتك والشعر ؟!!
طب انت حد ينفع يجيب ف سيرتك بالنحوي؟! أنا قلبي واكلني عليهم لتطلع تسب لهم والناس دي غلابة ومش حمل أخلاقك العالية ولسانك اللي بيسقط شهد. طب على فكرة مش باتريق. ماتشتمش. طب باتريق بس مش قوي. أنت فعلاً لسانك بيسقط شهد. انت عارف؟
أساسا أساساً، ما كنتش أعرفك ولا عمري حبيت الشعر السياسي ومباشرته، بس انت لئيم، قلعت السياسة الكرافتة، ولبستها لبس الغوازي. فاجر. بالرغم إنّي جامعية، وبفكّ الخط بس ربك والحق أنا فهمت المانافيستو من أغانيك.
وزي كل عمي البصر والبصيرة شفتك الشاعر اللهلوبة اللي فك طلاسم المصطلحات التخينة دي بأغانيه وكسب فينا ثواب وفهّمنا سياسة واقتصاد..... بس تمام، لحد كده وتشكر. وبعدين عابر سبيل قرر يسمعني فاجومي تاني خالص! «ومن ليلتها وقلبي مش طايق حنانه، ومن ساعتها وهو مش نايم مكانه». إيه اللخبطة دي؟! مش انت بتاع عن موضوع الفول واللحمة؟ ونيكسون بابا؟ وشيد قصورك؟
فاكره كويس يوم عيد ميلاد زينب السابع لما شفتك أول مرة. كل الأكابر بتوع «لا مؤاخذة» الثقافه كانوا ع السطح قاعدين ع الارض ومتأنتكين، وانا كنت لابسة الفستان اللي حيلتي وعاملة نفسي حلوة عشان أليق بالحضرة الطاهرة، وانت قاعد بجلابيتك كأنك بتقول لنا طز فيكوا.
ف اليوم ده غنيت. وأنت شتمتني! أخدت وقت عشان استوعب أن الشتيمه دي تعبير عن الرضى والكيف. طلع الصبح ونص العدد من امبارح نايم مكانه وأنت اختفيت. شوية وظهرت لنا بفول وعيش وفطار وموز. «علقوا ع الشاي يا عيال. موز أهه، واللي يفضل كلوه». ماحدش غيرك قال عليَّ المتهمه. يوم عيد ميلادي بعدما عرفتك بشهر وشوية كنت بلا مأوى. «يا أم زينب، عشي المتهمه دي وطلعي لها بيجامة».
أتاري يا خويا تحت الجلابية والشعر الدريس ملكوت تاني، أب حنيته تتفك ويتعمل منها تلات أربع ابهات! لأ، مش عارفة أقولها ازاي دي؟! أنت ازاي تمشي كده وتسيبنا يا جدع انت؟!
يوم ما سمعت محامي بيقول لك فيه واحد اسمه متولي سارق منك قصيدة، وبيقول إنّها بتاعته، وانك انت سارقها منه، وأنت بقى لازم ترفع عليه قضية يا بو النجوم، ردك يومها خرم لي نافوخي للأبد: «يا عم انت قضية ايه؟!! مش كفاية اسمه متولي؟! هنبقى احنا وربنا عليه؟! سيبه سيبه».
ما تزعلش مني يابا. أقول لك حاجة وتسبليش الدين؟! أنت مش من حقك تمشي وتسيبنا.
الموضوع مش بس الأغاني يا خويا وانت عارف .
على قولة ايمان مرسال
«سأعتبر موتك آخر ما ارتكبته ضدي».
لو سمحت، حاول تقعد مهذب عندك لحد ما اجي لك، وللا اقول لك؟!! اعمل اللي يلد عليك، يمكن يتعبوا منك ويرجعوك تاني
* فنانة مصرية

أميرة الأدهم*
كانت أمي تجادلني بخصوص النزول إلى التظاهرات أو السفر بمفردي وأرد عليها بكل إيمان: «حد ضامن يمشي آمن أو مآمن يمشي فين.» البكاء يغطي على الحديث عن شعر نجم، ومن الأنانية أن نتحدث عن انتقال فلسفة نجم إلى أرواحنا، ومن غير اللائق التجارة بسنين عمره الضائعة في السجون رغبةً في تفعيل أفكارنا الثورية. لكننا مساكين في تلك اللحظة مثل قلة حيلتنا وفرحتنا البلهاء أيام الثورة أمام نجم. جرينا فرحين ناحيته متباهين بأنه شهد لحظة جلس يحضّر لها طوال حياته. جرينا إليه فاستقبلنا وبكى ونحن أيضاً سنبكي، سنبكي كثيراً. فبعد الآن، عندما ستصعد إلى «دار ميريت»، لن تجد «عم أحمد» على كنبتها. وفي رمضان لا تنتظر أن يستضيف أحدٌ «الفاجومي» بصراحته ولسانه الطويل وحريته «اللي وسعت الدهشة وجارت على الأسرار»، ولن تصبح سيرة الحشيش والشاي ملهمة. صاحبهما الذي تغنى بعاداته، لم يعد هنا! بعد كل ذلك، لو حدث وتحقّق في يوم ما العيش والحرية والعدالة الاجتماعية، لن تجد مَن تجري إليه فرحاً ليبكي معك تعب سنينه. ستكتفي بالبكاء عليه.
أحمد فؤاد نجم ليس فقط ملحمة سياسية، ولا تاريخ نضال مع الأنظمة باختلافها، ليس فقط تحقيقاً لرومانسية الشعر فوق السطوح ومتطلبات الحياة البسيطة، عم أحمد لم يكن فقط لساناً صريحاً وحراً ودمه خفيف، ولا يمكن اختصاره في أناشيد حماسية للنزول في التظاهرات، ولا يمكن أن تجرب ذكراه ــ فقط ذكراه ــ لكي تحب مصر. «عم أحمد» حب جارف للحياة، هو ولادة الدمج بين الأفكار وتحققها على أرض الواقع، وذوبان الحاجز بين غزل الحبيبة والسعي وراء حضن وطنه: «شابة يا أم الشعر ليلي، والجبين شق النهار، والعيون بحرين أماني، والخدود عسل ونار». لمن يغني نجم بهذا الحب والشغف؟ حبيبته أم وطنه؟
هناك غيري سيحكي عن دور نجم في شعر العامية، وكيف أصبح أي شاعر عامية شاب يلمع نجمه لمجرد تشابه جمل منه مع نجم. هناك آخرون سيحكون أساطير نضال عن نجم، وذكرياته مع الشيخ إمام، وحبسه ومنعه، وقصائد غضبه، وانتمائه إلى طين البلد و«غلابتها» الذين حرص على أن يظل بجوارهم. هناك أيضاً من سيحكي عن مغامراته العاطفية وحبه الشديد للحب والحياة. ستسمع من الكثيرين تأثرهم بشعر نجم ونغمه وكيف غيّر حياتهم. أما أنا فسأبكي، ثم أتذكّر «إفيهاته»، وكيف صادفته مرة مرتين ثلاثاً أربعاً وابتسم ولا أصدق ذلك.
مصر ستنتفض وتتوج رحيله بجنازة عامة باكية أليس كذلك؟ أيام حداد وحبل للدردشة والتعليقات، هل تعرف المزايدة؟ النهش في موت نجم من أعوان أي نظام أو ممن لا يتحملون فكرة رحيل هذا الجميل، فتأخذهم السخرية إلى المزايدة على بكاء محبيه وحياته الشخصية مثلاً! أعتقد أنّ حتى محبيه سينجرون إلى تلك الضحكات في يوم ما لأنه كان مبهجاً حياً وراحلاً. كذلك فإن لا أحد يتحمل فكرة رحيل نجم. لا بد من أن يداويها بنميمة ما، أو بموقف له ينتقص من قيمته مثلاً. والرجل لم يقدم نفسه قديساً أبداً. كان «فاجومي» وما سيهدئني أن أتخيل روحه ترد على أي اتهام أو تهجم بـ«أيوه يا ** أمك. كنت بعمل كده وبحب الحياة وانبسطت بيها». في النهاية، لم يعد هناك أحدٌ ليجادلني في السفر أو المغامرات، لكن لم أتوقف عن تكرارها بكل إيمان: «حد ضامن يمشي آمن أو مآمن يمشي فين».
* شاعرة مصرية

أحمد سراج*
عيناه ورقاوان من شرق وزيتون. رجل نسيج وحده، صاف كالسماء، مندفع كالسيل، صادق كوعد عاشق، لا يدعي أنه يمثل أحداً، فيما هو على الحقيقة يمثلنا جميعاً، نحن الشعراء، المصريين، العرب، الباحثين عن الحرية والحقيقة. «كل عين تعشق حليوة، وانت حلوة في كل عين». منذ أن قرأت هذين السطرين وأنا أعلم أنني في حضرة قطب من أقطاب الشعرية الإنسانية، خرقته لغة سهلة الفهم، وكرامته أنّها تحوي كل ما يريد الشاعر والقارئ. في كل موقف أبحث عنه، فإذا ما وجدته اطمأن قلبي، إنه الشاعر الموقف، والموقف الشاعر، إنه ذلك المصري النبيل الذي لا يحمل قلبه ضغينة لأحد، فالحر يقاوم بنفسه وروحه ويجأر بكلمته مهما كانت النتيجة «كلمتين يا مصر هما آخر كلمتين، حد ضامن يمشي آمن، أو مآمن يمشي فين». ما يميز شعر نجم عندي، أنه شاعر يقول ما لديه ولديك دون تكلم، واحد من جموع المقاوم. جاء نجم في وقت اعتبر شعراؤه أنهم أعلى من القارئ؛ فردّ الأمر إلى نصابه؛ الشعر من الناس وإليهم وعنهم. نجم الباحث عن الحقيقة والحرية لمن حوله، فيما يرفرف دائماً مضيئاً وصادقاً.
* شاعر مصري

سارة علام*
«كل ما تهل البشاير من يناير كل عام يدخل النور الزنازن يطرد الخوف والظلام، يا نسيم السجن ميل ع التعب وارمي السلام»، قالها نجم قبل أن نفعلها، بـ34 عاماً. وحين فعلناها، كان معنا، يغني أناشيده ويهتف للثورة، يشد عزمها ويقوينا. عام 2000، كنت في الإعدادية، أتردد على قصر ثقافة أسيوط ونادي الأدب، التقيت بعض الأصدقاء الشيوعيين يقرضون الشعر، وينسجون القصة، أذكر منهم عصام شعبان عضو لجنة الشباب في «الأعلى للثقافة». أهداني عصام «فلاشة» تحوي أغنيات نجم وإمام، وقال لي: «اسمعيها يا سارة». سهرت ليلة كاملة، أسمعها وأردد «مصر يامه يا بهية، الزمن شاب وانتي شابة، هوا رايح وانتي جاية». بعدها بأيام، اشتريت ما وجدت من كتب لنجم من بينها كتابه «أنا بقى وعادل حمودة». وحين تركت أسيوط، وانتقلت إلى القاهرة، وعملت في الصحافة، قابلته مرتين، عند محمد هاشم، في «دار ميريت» حيث كان يجمع ما تيسر من الأدباء حوله. يضحك ويشرب ويحكي. سأل نجم محمد هاشم «مين البت دي يا محمد؟». رددت: «أنا سارة يا عم نجم صحافية». ابتسم وقال: «انتي بت جدعة وقمر». وحين هبت «ثورة يناير»، كان نجم يجاور سيد حجاب في المقعد نفسه عند هاشم بعدما أنهيا خلافهما. كنا نتابع الأخبار بكثير من الخوف والقلق. وككل الأشياء التي يفعلها فجأة من دون استئذان، مات نجم، وسيقف هاشم يغني ونردّ: «نجم مات آخر خبر ف الراديوهات، وف الكنايس والجوامع وف الحواري، والشوارع وع القهاوي وع البارات، نجم مات مات المناضل المثال يا ميت خسارة ع الرجال»
شاعرة مصرية

شريف بكر*
عرفت نجم وأنا صغير. كانت قصائدة وأغانيه تتداول في بيتنا من والدي وأصدقائه. لم أدرك الفرق بين «الفاجومي» وأحمد فؤاد نجم إلا في مرحلة لاحقة في عمري. لكني أتذكر في معرض الكتاب عام ٢٠٠١، كانت هناك ندوة مسائية مع نجم ونجيب ساويرس. في هذا اليوم، اكتشفت الرجل وراء الأشعار. حكاياته التي تهكّم فيها على ساويرس «شوية العيال الي بشعر دول الي كانوا فاكرين انهم حَ غيروا البلد في السبعينات». ندمت زوجتي لأنّها لم تلتقط صورة لابنتنا معه عندما قابلته صدفة في المقطم قبل إفطار رمضان عندما وجدته في الشارع وسألها عما إذا كانت تريد مساعدة، وقبّل ابنتي ولعب معها وقال لها: «البت دي حتبقى نجمة». الله يرحمك أنت يا نجم.
* ناشر مصري