يصل معرض بيروت العربي والدولي للكتاب إلى عامه الـ 57، وهو لا يزال بالهيئة التي كان عليها في أعوامه الأولى. لم يتغير شيء تقريباً. نما المعرض وتطور طبعاً. توسعت مساحة العرض، وتضاعف عدد الناشرين، وازدادت العناوين الجديدة، إلا أن ذلك حدث داخل الفكرة الأولية التي قام عليها، وهي تجميع الكتب والإصدارات الجديدة في لحظة عرض واحدة، والنتيجة هي سوق للكتاب أو نوع من العيد والاحتفال أكثر من كونه موعداً ثقافياً ينبغي أن يكون الأهم في الأجندة السنوية.
ويمكن أن نزيد على ذلك بأن صفتي «العربي» والدولي» لم تتحققا يوماً بالزخم المطلوب، إذْ أن المشاركات الدولية غائبة، بينما المشاركات العربية (السورية والمصرية تحديداً) خفيفة وخاضعة لتقلبات الأوضاع الأمنية، إلى جانب مساهمات يمكن تسميتها بـ «الفخرية» من قبل دور النشر وبعض المؤسسات الحكومية الخليجية.
ملاحظاتٌ مثل هذه وغيرها تتكرر كل عام، ولكنها لا تخترق جسم المعرض المكتفي بريادته للمعارض العربية، ولا تكترث بها الجهة المنظمة التي يبدو أن لديها مبرراتها المتصلة بعدم وجود تمويل مالي يمكّنها من إضافة مقترحات وأفكار مبتكرة للمعرض الذي بات عليه أن يُنظَّم كل عام بالموارد التي حصل عليها في العام السابق.
هكذا، في كل دورة، نحمل الأسئلة ذاتها إلى الناشرين الذين يكررون ملاحظاتهم ذاتها، ولكنهم يؤكدون في الوقت نفسه على أهمية عميد المعارض العربية، وعلى فسحة الحرية والديمقراطية التي تقدمها المدينة التي ينعقد فيها. ولكن ماذا عن دورة هذا العام التي تتزامن مع ظروف أمنية صعبة، وتشهد غياباً عربياً واضحاً، سواء كدور نشر أو كقراء، بعدما أوصت حكومات عربية عديدة مواطنيها بمغادرة لبنان وعدم السفر إليه. وماذا عن حالة الكتاب العربي في زمن «الربيع العربي»، وما هو دور الكاتب والمثقف وسط الانقسامات المذهبية، والهويات الصغيرة القاتلة.
الشاعر خالد المعالي، صاحب «دار الجمل»، يقول إن معرض هذا العام «سيكون فاتراً بسبب التشنّجات السياسية والأمنية»، ويرى أن «السُّمعة العطرة لا تكفي وحدها للنجاح في ظل غياب المشاركات العربية، وغياب القارئ العربي». بالنسبة إليه، المشاركة في معرض بيروت باتت أشبه بالبريستيج، وهي مشاركة ضعيفة عل مستوى البيع. الناشر العراقي الذي يُصدر كتباً يحبها، وتكاد منشوراته أن تكون مكتبةً شخصية، يرى أن الكتاب هو أول ضحايا ما يحدث حالياً من صعود مناخات التطرف والصراعات المذهبية، وأن بعض المعارض التي شارك فيها هذا العام شهدت عرض مؤلفاتٍ ورقية وألكترونية تستغل الأحداث الجارية للهجوم على مذاهب لصالح مذاهب أخرى، ويرى أن الربيع العربي ساهم في تغيير خريطة القراءة، وتغير في اهتمامات القراء من بلد إلى آخر، حيث «يزداد الإقبال على الكتب الفكرية والفلسفية والدراسات الدينية، وتحس أن ما يحدث، رغم ملاحظاتنا عليه، كان له تأثير إيجابي على القارئ العربي الذي بات يسأل عن الكتاب المطلوب بطريقة واضحة ومباشرة».
لدى منشورات الريس، نجد نبرة أكثر حدة، إذْ يرى رياض نجيب الريس أن «الربيع العربي هو أسوأ ما حدث للكتاب في السنوات الأخيرة، حيث ازدادت الرقابات وخصوصاً في المعارض الخليجية». ويشير إلى أن الكثير من المثقفين في حالة انتظار أن تُحسم الأمور لصالح طرف ضد طرف، ويستعيد شيخ الناشرين إلغاء بعض المعارض وتأجيلها بسبب الثورات، ويتأسف على غياب معرض دمشق، ويقول: «قلّصنا حجم إصداراتنا لهذا العام، وركّزنا على المؤلفات السياسية والتاريخية، إضافة إلى بعض الترجمات حول الصراع في سوريا وعليها». ويرى أن «القارئ يفكر بتأمين معيشته اليوم أكثر من اقتنائه للكتاب، كما أننا نتوقع غياباً عربياً كبيراً هذا العام»، ولذلك اكتفى بقائمة قصيرة من العناوين الجديدة، مفضّلاً أن يُصدر طبعات جديدة لـ «كتبٍ لها تاريخ» لكتّاب مثل: زكريا تامر، الصادق النيهوم، محمود درويش وغيرهم ممن صنعوا جزءاً من إرث الدار. ويقول إنه ابتكر شعاراً لتلك الطبعات هو: «هؤلاء كُتّابي فجئْني بمثلهم». وبالنسبة للنسخة الجديدة من معرض بيروت، يتوقع الريس أن يتكرر الفقر الموجود في البرنامج الثقافي الموازي، وأن يكون البيع منخفضاً. ولكنه رغم ذلك، يرى «أن معرض بيروت هو آخر معاقل الصمود للكتاب العربي وسط تيارات أصولية وتكفيرية يُخشى أن تفرض أجنداتها الضيقة والمتطرفة على حركة الفكر والتأليف».
بدورها، تتخوف رنا إدريس، مديرة «دار الآداب» من الغياب المتوقع للقراء والناشرين العرب هذا العام، ولكنها تذكّرنا بأن المعرض ظل يحقق نجاحات جيدة في ظروف أمنية مماثلة، وتقول إنها متفائلة دوماً رغم الوضع الاقتصادي السيء الذي قد يفرض تراجعاً في المبيعات. وتراهن في الوقت نفسه على القارئ السوري في الشتات، وتأمل أن يعوّض ذلك جانباً من الغياب العربي. وبالنسبة للملاحظات المتكررة حول طريقة التنظيم، تقول إن المعرض لا يزال قائماً على همّة الناشرين، وهو يُنظّم من «حواضر البيت»، ولكنها تشير إلى أن بيروت لا تزال عاصمة النشر العربي، وأنه ليس هناك بديلٌ لها في ظل الدمار الذي يحدث في سوريا، وتراجع مصر، وعدم استقرار العراق.
في السياق ذاته، يرى حسن ياغي، صاحب «دار التنوير»، أن «صناعة النشر تتقدم في عدد من الدول العربية، خصوصاً في الخليج التي تعتبر أسواقها المستهلك الأول للكتاب العربي حالياً، بينما تتعثر بيروت على وقع الانفجارات والمخاوف، وتترك الثورات والتبدلات الحاصلة آثاراً سلبية على حياة الناس، فتتراجع أهمية شراء الكتب لحساب تأمين العيش»، ولكنه يؤكد أن «دور النشر اللبنانية لا تزال هي المقصد الأول للمهتمين بالإصدارات الجديدة والجيدة، ولهذا يحتل معرض بيروت مكانة متميزة، رغم أن الحديث عنه بات مترافقاً مع الخوف من زيارة المدينة من قبل الذين يحرصون على حضور المعرض». وعن تأثير ما يحدث في العالم العربي على صناعة الكتاب، يقول ياغي بأنه رغم «الجرح السوري المفتوح والمؤلم، وما يتركه من أثر مدمر على النسيج الاجتماعي والسياسي، وما سيخلفه من انقسامات واتهامات تفصل المثقفين والكتّاب»، إلا أنه متفائل بالمستقبل، ويرى أن حلم الثورة المصرية في بناء دولة تُنهي عهود الاستبداد، سيؤدي إلى تغيير كبير في العالم العربي كله، وأن ذلك سيصب في النهاية لمصلحة حرية الكتابة والتفكير.
هكذا، يبدو أن علينا أن نكفّ عن «النقّ» حول المبيعات، وأن نتذكر أن دور النشر هي مشاريع ثقافية في النهاية، وأن ذلك يتطلب تضحيات كبيرة من وقت لآخر. أما بيروت، فيبدو أنها، رغم كل الملاحظات، لا تزال تمتلك تلك الروح الحديثة والمعاصرة القادرة على طرح الأسئلة الطليعية وإنتاج الظواهر الجديدة، ولا تزال عاصمة النشر العربي ومطبعة العرب، ولا يزال الكاتب العربي يسعى إلى إصدار أعماله لدى ناشريها. نعم، هناك منافسة من بعض المعارض العربية، ولكن الاحتياطي الثري والعريق لبيروت يجعلها مختبراً للحساسيات والعناوين الجديدة في الكتابة، وفضاءً للسجالات النقدية والثقافية، وليست مطبعة تنتج كتباً فقط.

يمكنكم متابعة حسين بن حمزة عبر تويتر | @hbinhamza