عاش رافع الناصري حياةً من التيه والهجرات رسّخت علاقته بالمكان الأوّل. لكن، مع الاحتلال الأميركي والعنف الأهلي والردّة الدينيّة، راح العراق يبتعد. قبل أسابيع حضر افتتاح معرضه الاستعادي، المتواصل حاليّاً في عمّان. كانت الاطلالة الوداعيّة التي توّجت نصف قرن من الابداع. المحطّة النهائيّة في مسيرة عنوانها الأناقة. التشكيلي العراقي الكبير وأحد أبرز معلّمي الحفر العرب، ووري في ثرى منفاه الأخير بعد معاناة مضنية مع المرض. مات ودونه «دجلة الخير» التي استعارها ذات لوحة من بيت شهير للجواهري. «استودع الله في بغداد لي قمراً» كما نقش في عمل آخر متماهياً مع الشاعر العبّاسي ابن زريق البغدادي...
عرفنا رافع في بيته البغدادي، خلال السنوات الصعبة التي لم يتواطأ خلالها قيد أنملة مع النظام، برفقة الشاعرة والناقدة مي مظفّر شريكة تجربته إلى النهاية والشاهدة عليها ومؤرّختها. هناك بدأت الرحلة المدهشة التي أخذته من التصويريّة كما تلقفها على يد جواد سليم وفائق حسن، إلى تجريديّة ميتافيزيقيّة، أو «واقعية مثالية» بتعبير فاروق يوسف. في بكين استعاد نقوش حضارات ما بين النهرين ورموزها، وفي لشبونة ترسّخت خياراته. بعد النكسة خرج على صنميّة التراث مع محمد مهر الدين وإسماعيل الترك وضياء العزّاوي، رفاقه في «الرؤية الجديدة». وقارب الحروفيّة ضمن جماعة «البعد الواحد» مع شاكر حسن آل سعيد. لوحته، أبعد من الرمزيّة وأعقد من المينيماليّة، تنطوي على طقوس وإشارات وطلاسم سريّة. تقوم على ضبط الرؤى المتأجّجة خلف واجهتها. تتوحّد مع الكون، تتماهى مع الطبيعة، تنبسط مثل البادية حول تكريت مرتع طفولته. تسكنها أمواج متلاطمة كهلام الأفكار، وألوان صارخة كالمشاعر، وآفاق تحتضن انبلاج الضوء. تجربة فريدة في مشروع الحداثة العربيّة المسحتيلة.

يمكنكم متابعة بيار أبي صعب عبر تويتر | PierreABISAAB@