ما استجمعه «المتحف الوطني الأردني للفنون الجميلة» عبر معرض «رافع الناصري 50 عاماً من الرسم والطباعة» المستمرّ حتى نهاية الشهر في عمان، سيكون بمثابة الوصية الأخيرة لأحد أبرز رواد فن الطباعة في العراق والعالم العربي. وصية جمعت أفضل خلاصات فنية لمسيرة قاربت خمسة عقود، وشملت عرض حوالي 100 عمل موزعة بين التخطيط والرسم والطباعة والدفاتر الشخصية. لكن هل استشرف رافع الناصري (1940 ــ 2013) قدره الى هذا الحد، وجمع ما جمع من تجليات إرث فني واشتغالات غدت قاموسه الشخصي بإشاراتها ورموزها، قبل أن يغمض عينيه يوم السبت الماضي، ويقول وداعاً لمحبيه ومريديه وطلابه؟
في الظاهر، تقول ميتة رافع الناصري، ومثلها لعنة لاحت بمأساويتها أقدار آلاف العراقيين في بلدان الهجرة والمهجر، إنّ الموت هو في النهاية آخر زفرة عذاب من مرض عضال، ومن أخبار بلد تحول الى مستعمرة جذام بفعل سياسات «الهكسوس» الجدد ومن سبقهم. لذا، يصبح طبيعياً أن تكون لوعة فنان على شاكلته يقول في احدى مقابلاته بأنّ «حريّتي ألا أقول صباح الخير لأشخاص لا أحبهم ولا أحترمهم»، وهو يشير بذلك الى التهافت والانحطاط القيمي والأخلاقي خلال نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات. هو الباحث عن مكان خارج سياق حفلات التملق والتزلف وتبديل الأقنعة في زمن اختلاط التواريخ والسير الشخصية قديمها بجديدها.
في حياة الناصري المولود في تكريت (شمال بغداد)، أكثر من تحول أسلوبي وسم تجربته المديدة. بتشجيع من عائلته، التحق عام 1956 بمعهد الفنون الجميلة في بغداد الذي كان يعدّ الحاضنة الفنية والثقافية لجيل من الأسماء المهمة التي حاولت تطويع مفاهيم وتجليات الحداثة الفنية الأوروبية وفق صياغات محلية. من تلك الحداثة، تأسست «جماعة بغداد للفن الحديث» في بداية الخمسينيات التي التفت حول الفنان جواد سليم، وضمت أسماء فنانين مهمين ومهندسين معماريين وشعراء وكتاب. وبعد إكماله الدراسة الأولية عام 1959، سافر الى الصين ليتخصّص في فن الغرافيك (الحفر على الخشب) قبل عودته الى العراق. وكان من ثمارها معرضه الأول في الرسم والغرافيك في هونغ كونغ عام 1963. تجربة الدراسة في الصين نبهت الناصري الى ما يختزنه الشرق من لقى لم تستنفد فنياً أو جمالياً. إلا أنّ سفره الى لشبونة عام 1967، ودراسته فن الحفر على النحاس هناك مثلت النقلة الأكبر في تجربته. هكذا، اكتشف ما يوفره الحرف العربي من قيم جمالية، تعبيرية وبصرية، وقرّبته من وهج إغرائه في صياغة اللوحة. فيما مثلت مادة الإكريليك الاكتشاف الثاني الذي عاد به الى بغداد عام 1969.
شكلت الستينيات في حياة العراقيين مفارقة صادمة. طبقة سياسية رثة تولت مقاليد الحكم، وانقلاب 8 شباط (فبراير) الأسود (1963) مروراً بحكم الأخوين عارف الى مجيء البعث عام 1968 مقابل حراك اجتماعي وثقافي وفني صاخب وجد تعبيراته في الفن التشكيلي والشعر والقصة والمسرح والموسيقى والى حد ما في السينما. بدت تعاليم مدرسة «جماعة بغداد للفن الحديث» القائمة على واحدية الأسلوب وتعدد مصادر واقعيتها المتروكة لاجتهاد الفنان، قادرة على استيعاب التحولات الهائلة في المشهدين السياسي والثقافي داخل العراق وخارجه. كان سؤال «التراث» واحداً من الأسئلة المختلف عليها. وجد الناصري نفسه، مع الفنان صالح الجميعي وإسماعيل فتاح الترك وضياء العزاوي، معنياً في البحث عن حل يكسر رتابة اللوحة التقليدية ويمنحها الإيقاع الضروري معاً. لعل تأسيس «جماعة الرؤية الجديدة» عام 1969 التي لعب فيها الناصري دوراً محورياً، جاءت في إطار البحث عن مخارج عملية لخطاب بصري مختلف في رؤاه وتقنياته وأفكاره. إلا أنّ فناناً آخر هو شاكر حسن آل سعيد لم يكن بعيداً عن هذا الحراك. وجد الناصري نفسه مرة ثانية مشدوداً الى تجمع «البعد الواحد» (شارك الناصري في تأسيسه مع آل سعيد) في العام ذاته، لتكون أول محاولة عراقية وعربية لما عرف بالمدرسة الحروفية التي تستلهم من الحرف العربي أثرها الفني المعاصر كصياغة فنية، وكبعد دلالي ضارب في حضارة منطقة. لكن فناناً جاداً من طينة شاكر حسن آل سعيد لم يوفق في جمع ما جاءت به «جماعة بغداد للفن الحديث» من تعاليم فنية رغم كتاباته النظرية في هذا الشأن.
ضمن تلك الأجواء، كان رافع الناصري موزعاً بين النقاشات المحتدمة لمآلات اللوحة وصياغاتها الفنية، وإقامة المعارض والتدريس في معهد الفنون الجميلة. في ذلك المعهد، أشرف على تأسيس قسم الغرافيك عام 1974، وظل رئيساً له لغاية 1989. بعدها بعامين، التحق بجحافل مَن تركوا العراق الى بلدان الجوار، وليتخذ من عمان مستقراً له أول الأمر. حرقة الغياب عن بغداد والآمال المعقودة على أبناء بلده ومشاهد الخراب الفاضحة استجمعها في معرضه المهم «عشر سنوات... ثلاثة أمكنة» الذي احتضنته المنامة عام 1999. بقي رافع الناصري أميناً لأناقة شخصية لافتة انعكست على بناء لوحته، ولبحث فني يزاوج بين فن الطباعة والحرف من دون غضاضة الإثقال، فيما جاء التنوع البيئي كعنصر جمالي ليكمل اللوحة التي يريد التعبير عنها، ولرؤية فنان وجد في حبّ المدينة عزاءه الدائم.



كتابان مرجعيان

عام 2011، أصدرت «المؤسسة العربية للدراسات والنشر» كتابين يتناولان تجربة رافع الناصري: «رافع الناصري ـــــ رسام المشاهد الكونية» لمي مظفر، و«رافع الناصري حياته وفنه» أنجزه صباح الناصري ومي مظفر. في الكتاب الأوّل، توثّق الشاعرة والناقدة وزوجة الفنان، حياته منذ بداياته الأولى، وتقدّم دراسة نقدية عن تجربته التي استمرت نصف قرن. ويحتوي الثاني على دراسات وأعمال فنيَّة، ومعلومات عن معارض الناصري، إلى جانب مقالات مختارة باللغة الإنكليزية لكل من سعدون فاضل، مي مظفر، إيتل عدنان وسلوى مقدادي.