الفصل الأخير من مصرع: محمد العبدالله | محمد العبدالله شاعرك الأوّل. كيف يصطفي المرء شاعره الأوّل؟ آخر المراهقة، لحظة يتحرر من عبء المناهج المدرسيّة، والنصوص التي تراكمت حوله… يمسك ذات يوم بالمجموعة الشعريّة المربّعة التي اشتراها بـ 7 ل.ل. من مكتبة «دار الفارابي» قرب البيكاديللي. يفكّر في أنّها له وحده، يحملها بعيداً إلى صومعته. هذه القصيدة أو تلك لن تفارقه طوال أعمار مقبلة. «شطح» بقيت قصيدة حبّك بامتياز. لم تتصوّر الحبيبين مرّة إلا هكذا، آخر الليل حين يتركهما آخر الأصدقاء: «هذا أنا بعد الآهة المتقطعة الطالعة من بئر الصدر/ حاضر أبداً للنظر الطويل إلى عينيك». كم أغضبك مرسيل حين صار يقرأها في أمسياته في السنوات الأخيرة، فلا يذكر اسم الشاعر. ويوم أوصل عبده تقديمك للقصيدة وصاحبها إلى أنسي، ونشره الأخير في مجلّة «النهار العربي والدولي» (زاوية شاعر الأسبوع أو ما شابه)، لم تعد الدنيا تتسع لك. لقد صار شاعرك في العلن، كما يشهر الحبيب اسم حبيبته!هناك معادلات كيميائيّة سحريّة تضع شاعراً في حياتك (لا بدّ من أن حوريّة ما أدت دوراً حاسماً في ذلك)، فلا يعود شيء يقوى على انتزاعه من هنا: لا تقلّبات الزمن، ولا الخيبات الصاعقة، ولا تبدّل الأمزجة وتكاثر المرجعيّات، ولا تراكم المغامرات واللقاءات والاكتشافات، ولا اتساع دائرة التجربة الذاتيّة… كثيرون قرأتَهم في تلك المرحلة اختفوا من ذاكرتك وانسحبوا من حواسّك. أما هو، فلا. علماً أن هذا الرجل الضخم الهازئ الذي يتلذذ بالكلمات قبل أن يرجّع خداه صداها، أمضى وقته يخرّب تلك الصورة المثاليّة التي تمتلكها عنه، ويحاول الهروب من الديكور الطوباوي الذي حبسته فيه، كأنّه يصرّ على إخراج نفسه من حياتك. لعلّه فعل ذلك مع جميع القرّاء! أما معك، فلم ينجح. قصّة الحب النموذجيّة كانت نهايتها مؤلمة، لكنّها احتفظت في رأسك إلى اليوم بهالتها الأراغونيّة والبطوليّة. «تدخلين في الاحتمال، فأدخل في الخسارة والنقصان»، صرت تريد أن تعيش مثل الشاعر، أن تعشق على طريقته، وتكون شيوعيّاً مثله، وتكتب في الجريدة نفسها، وتسكن في شقّة في بيروت الغربية كشقّته. لم تكن تعرف بعد أنّ حلمه هو، هو الذهاب إلى «الشرقيّة»! ذلك هو محمد العبدالله بموهبته، ونزقه، واحساسه باللاجدوى. يهزأ من العالم، ويمد لسانه للتاريخ، «بعض ظهر نبيذ أحمر… بعد ظهر خطأ كبير». ولعلّه عاش الجزء الأخير من عمره، يريد أن يتطهّر من ذلك الخطأ الكبير. لم تشفع له قصائده الكثيرة «في صحّة ديمة ومريم».
ومحمد في الحياة كما في الشعر، رقيق ومباشر، عذب وغليظ، رومنسي وهجّاء. سار على نهج التدمير الذاتي في النصّ، إذ زرعه بألغام الفجاجة، كأنّه يعتذر عن شاعريّته المفرطة، ويحاول التكفير عن بلاغته. لقد أمضى وقته يصدم معاصريه، ويهجوهم بصخب. وبالطريقة نفسها اشتغل على تدمير حياته، كأنّه يخجل من سعادته، ويعتذر منّا أنّه يعيشها، هو الذي يجرّ خلفه عبء الهزائم والخسارات والخيبات. علاقته الفوضويّة بالكتابة والحياة، خياراته الاستفزازيّة على هامش مجتمع الأدباء والمثقفين، وعلى هامش السياسة التي شكّلت وعيه وسيرته وتاريخه، جعلت من محمد العبدالله ذلك الشاعر الملعون الذي نقرأ عنه في كتب السيرة الأدبيّة، وقلّما نفطن إلى أنّه هنا، يتقيّأ على خطوتين منا… محمد الشاعر الصعلوك بامتياز، شرب كأس الحزن حتّى الثمالة وهو يقهقه ويسخر من كل شيء. بين الدموع تتذكّر نهفاته وتضحك. تراه يقرأ الشعر منذ كان «شاعر الكليّة»، تتخيّله يأكل التبولة أو يلعب البوكر، ويشرب ويشرب مثل السيد «س» فلا يصحو. يخطر في بالك غداً أن تقهقه في الجنازة، لكنّك تعرف أنّك لا تملك جرأة محمد العبدالله.