داريا | لا تخفي الخوذة الثقيلة ملامح الفتاة الجميلة الواقفة خلف الدشم، على الرغم من احتفاظ وجهها ببراءته بعيداً عن تلاعب الماكياج ووشم الحاجبين. تغطي الخوذة رأسها الصغير وجزءاً من شعرها الطويل المربوط لضرورات العمل.
زينة، ابنة الـ21 عاماً، تمضي يومها بين مقر الاجتماع وبين الدمار. تتعايش مع طريقها إلى حيث تتسلّم مكانها. تصوّب نظرها بعينين ثابتتين نحو أي هدف محتمل لعدوّها المواجه.
هي المرأة بكل قوّتها حين جعلت منها الحرب قناصاً في الجيش السوري. يمكن أن تعرف عن الفتاة، من خلال إجاباتها العفوية، كل ما يروي فضول الباحثين المعنيين بكشف الحقائق المتعلقة بسرّ «كتيبة المغاوير للبنات» في «الحرس الجمهوري». البعض يرى أن دور الفتيات في المعارك مبالغ في الترويج له إعلامياً، في حين أنهن يتولّين مناصب إدارية لا أكثر، بحسب المزاعم. غير أن للمقاتلات كلاماً آخر.

المُقاتلة والترويج الخجول

بدأ «سرّ» كتيبة الإناث، البالغ عددها 800 مقاتلة، بالظهور على نحو واسع بعد استهدافها مرّتين من قبل مسلحي «الاتحاد الإسلامي لأجناد الشام». وجودهن يستفزّ مسلحي داريا، فمعظمهنّ قنّاصات يُجدنَ الرصد والرمي، وهذا لا يستسيغه هؤلاء «الأصوليون».
لا تتحدث الفتيات كثيراً عن قدراتهن في الثبات تحت الحصار ومع اشتداد المعارك. يجبن فقط عن الأسئلة بتواضع وخجل. يعتبرن أنفسهن فوق الشبهات، ووجودهن هنا ليس إلا جزءاً من واجبهن الوطني.
تقول زينة إنها وحيدة أبويها بين أربعة ذكور، ثلاثة منهم على الجبهات. عانت في إقناع أهلها بحاجتها إلى العمل، وقد غزت الحرب كل الأعمال في البلاد. جنوحها للسلام يسكنها فطرياً، رغم وجهها البريء ذي القسمات الحازمة، والذي يظهر في العديد من الصور على شبكات التواصل الاجتماعي، كجزء من الترويج الخجول وغير المدروس لقضية الجيش السوري.
البعض يرى أن دور الفتيات مبالغ في الترويج له إعلامياً

زميلتها هالة ترفض أي عمل مسالم في ظل الحرب، «طالما حملتُ السلاح، وقاتلت دفاعاً عن الأرض والشرف»، كما تقول. تختلف هالة، الطالبة في كلية الحقوق، عن زينة بتفضيلها القتال على أيّ مهنة أُخرى. تشرح ظروفها الصعبة في ظل مزاولتها عملها، بالتزامن مع دراستها في جامعة دمشق، واهتمامها بالتحصيل العلمي. تنال إجازتها من العمل خلال فترة الامتحانات الجامعية، لتعود إلى بندقيتها مع انتهاء واجبها الدراسي، وبدء العطلة الجامعية.

ميرفت شهيدة لكن... بقيت لورين

35 ألف ليرة سورية راتب الفتاة المقاتلة في كتيبة «المغاوير». لعلّها تُحدث فرقاً في حياة الفقيرات من المقاتلات. غير أنها لا تعادل موتاً غيّب زميلتهن ميرفت محمد سعيد، العام الماضي. شكّل استشهاد ميرفت صفعةً لزميلاتها والمشرفين عليها من ضباط الجيش. احتفل المسلحون بقتلهم الفتاة العشرينية، لكنهم لم يعرفوا أنها شهيدة «الحرس الجمهوري» الأولى، والمحبوبة من زملائها، ذكوراً وإناثاً. أسلمت الروح بين يديّ شقيقتها لورين، أثناء مهمة في قطاع داريا.
يجهل الكثيرون أن لورين لا تزال على رأس عملها مع أشقائها الذكور الموجودين في ساحات القتال. وباستشهاد ميرفت، لم تتوقف زميلاتها عن المضيّ نحو الشهادة، إذ يبلغ عدد شهيدات الكتيبة 6 فتيات، سقطن خلال أدائهن مهمات مختلفة، أو عن طريق الاستهداف المباشر لهنّ من قبل المسلحين.
تروي بشرى، قائد فصيل، أصعب لحظات القتال، حينما حُوصرن في مبنى، قبل عام، ما اضطرهن إلى المناورة للانتقال إلى مبنى آخر. طالبت بتغطية نارية من قبل «العناصر الشباب مع اشتداد الاشتباكات». تمكّنت القيادة من مدّ جسر هوائي لسحب العناصر المحاصرين. أنقذت المقاتلتان رنيم وورد المحاصرين، رغم طلب الضابط المسؤول من «الشباب» القيام بالمهمة.

«قائدة» دبابة

الفتيات في الخارج (خارج المعركة) يتباهين بقيادة السيارات، كل منهن بحسب إمكانيات الرفاهية فيها، لكن هبة تعتلي ظهر دبابتها، وتأخذ مكانها لقيادتها، بكل ما تتطلبه من قوة عضلية.
يختفي وجهها خلف منظار القيادة، وتلوح عيناها فقط كل بضع لحظات. نظراتها الصارمة تفرض احترامها على الجميع. لا يعلو صوتها عند إجابتها عن أي سؤال، إذ إن تلك الجبّارة التي قادت دبابة، ليست إلا أنثى تبلغ من العمر 24 عاماً.
تحمرّ وجنتاها خجلاً عند كيل المديح لأدائها. تذكر الفتاة كيف تحمّست لتعلّم قيادة المدرعات، فأصبحت من أهم القنّاصات اللواتي يحملن خبرات إضافية إلى عملهن الأساسي. تسأل: «ما الذي يمنع من أن أعرف كل شيء من خبرات الدفاع عن نفسي وعن أرضي؟». تشرح زميلتها لمى تفاصيل المهمات الموكلة إلى الفتيات، فتقول: «نراقب بمناظير القناصات والكاميرات خطوط التماس. لو لمحنا تحركات غريبة، نتعامل معها بحسب الإجراء العسكري المناسب، بعد الرجوع إلى القيادة».
لا تعطي الفتاة بالاً لإثبات حنكتها القتالية، إذ يبدو أن الأمر قد تجاوزته، منذ زمن. تضيف مبتسمة «صار إلنا جو هون وأسلوب حياة عسكرية». تعي أن وجودها وزميلاتها خفّف من أعباء الذكور في أرض المعركة، فيما يخص الإجازات والأعباء الإضافية، التي ضاقوا ذرعاً بها مع مرور سنوات الحرب الطويلة.

قدّيسات المعركة

يوضح الضابط المسؤول عن كتيبة الفتيات كيفية التعاطي معهن في الحياة العسكرية. «العلاقة تحكمها القدسيّة. أن تكون زميلتك في الميدان امرأة، فإن هذا يضيف شرفاً آخر للجهاد والقتال»، يقول الضابط. يصف ألم استشهاد إحداهن، بأن «أصعب المواقف في الحياة العسكرية هو أن تستشهد أنثى عليك واجب الدفاع عنها، أو أن تتعرض للإصابة، في حين أنك ما زلت حيّاً. لكنّهن أظهرن قدرة لا مثيل لها على التشجيع وتحمّل الألم عند الإصابة».
وبإجابة مفاجئة عن أحد الأسئلة، يكشف الضابط المسؤول تفوّق الفتيات، قائلاً: «لدينا القناص رقم واحد على مستوى الحرس الجمهوري، واسمها جواهر. وهي تفوق الذكور قدرة في مجال القنص». ويضيف «قدرة المرأة على الصبر والمراقبة والرصد تجعلها تبرع في القنص». وبحسب الضابط، فإن قناصاً واحداً قادر على منع كتيبة من التقدم، وهذا جوهر دور الفتيات المقاتلات، إذ إنهن، حسب تعبيره، مجموعة مقاتلة من عناصر لهن مواصفات خاصة، ويتطلب الأمر التعامل معهن بشكل عملي، دون أيّ عواطف أو مؤثرات.
أما عن الصعوبات التي واجهتها الفتيات، فيروي الضابط أن بعض الذكور رأوا في وجود المقاتلات عبئاً، ما أظهر نفوراً واضحاً في بداية التجربة القتالية، غير أن إثباتهن لجدارتهن جعل الفكرة مقبولة تدريجياً.