«ملتقيات دعوية» بنموذج سعودي... وتوبة جماعية في المدارس



يغمر الصمت جمهور البسطاء المتجمعين حول منصة أمسية دعوية يلبس فيها الداعية الشاب شماغاً سعودياً و«دشداشة» قصيرة، تُظهر رمانة قدمه (الزي المعروف للسلفيين المتدينين). يعلي «الواعظ» صوته ويخفضه على نحو مضطرب، وهو يشرح للحاضرين كيف ستعذبهم ملائكة القبر وتقتلع عيونهم. يتحسّس أحد الشباب تسريحة شعره خائفاً... إنه الموت!
«ملتقى سبيل الرشاد»، الذي حضرته «الأخبار»، هو نموذجٌ من عشراتٍ عكفت «جمعية ابن باز الخيرية السعودية» على إقامتها مؤخراً، في أحياء قطاع غزة كافة؛ الدافع إلى ذلك «انتشار المنكرات والمخالفات وتكاثر أهل الشهوات»، كما ورد في الموقع الإلكتروني للجمعية التي تستهدف مخيمات اللاجئين المكتظة بالسكان، خاصة الفقراء.
تنتهي فصول العرض الدعوي كل مرة بتمثيلية الموت

لا يتشبّه «وعّاظ ابن باز» بالسعوديين في ملبسهم فقط، بل يطابق الأسلوب الدعوي المتبع في «ملتقيات غزة» أسلوب الشيخين السعوديين نايف الصحفي ومنصور السالمي، المشهورين بهذه الملتقيات في السعودية، حيث يعتمد «الواعظ» طريقة الدعوة بالتأثير المكثف لاستثارة الجوارح ودغدغة المشاعر، كما تترافق المؤثرات الصوتية الحزينة دائماً مع صراخ الداعية المرتفع في تخويفٍ للجمهور ممّا «يجهّزه الله لهم من عذاب إذا لم يقلعوا عن الذنوب ويعلنوا توبتهم».
خمسة ملتقيات دعوية عقدتها فروع الجمعية المنتشرة في محافظات القطاع، يكاد يكون الحديث عن الموت موضوعها الوحيد. وما هو معتاد في هذه الملتقيات أن يهاجم «الواعظ» الشكليات الخارجية للشباب، كتسريحة الشعر، ووضع «الجلّ» (مثبت شعر)، ولبس بنطال «الجين»، وسماع الأغاني. فجأة يلتفت الشيخ إلى جمهوره من وقت إلى آخر قائلاً: «مسلم وبتحط جلّ؟ مسلم وجوالك كلّو أغاني؟ مسلم وغرفتك كلها صور مغنيين...؟ إي انقلع!». في هذه اللحظة، يضحك أحد الشباب ممن يحضرون أحياناً للتسلية، فيراه الشيخ معاتباً ومتوعداً: «ابتضحك! المهم تضحك في القبر يا أبو الشباب، المهم تضحك أمام الله يا بطل عصرك».
تنتهي فصول العرض الدعوي في كل مرة بتمثيلية الموت. يتقمّص «كومبارس الشيخ» فيها دور ميتٍ مكفّن، قبل أن يبدأ الداعية ذكر ما ستؤول إليه حاله بعد دفنه، وكيف سيتركه أهله في القبر وحيداً، وكيف سيأكله الدود، وكيف سيُسأل عن «الجل وأفلام السكس والأغاني والبنطال الساحل»، من دون أن يحامي عنه في دفع العذاب أحد! يعلو صوت «نغمة موسيقى حزينة» فجأة، ويتبعها صراخ الشيخ مخاطباً «الجثة الكومبارس»: «بحكي معك سامعني؟»، يكررها قبل أن يلتفت إلى الجمهور ويقول: «كلكم رح تكونوا في هذا الموقف. والله لتناموا مكان هذه الجثة. ستسمعون وتتحسرون على شبابكم ولن تستطيعوا إجابة أحد؟».
وبعدما يفترض «الواعظ» وصول الجمهور إلى أعلى مستويات التأثر، يبدأ حثّهم على التوبة، وينادي بهم كي يعلنوا توبتهم أمام الناس، ثم يحفّز الشباب على تكسير ذاكرات هواتفهم للتخلص ممّا فيها من منكرات، على أن تعوّضهم الجمعية، حالاً، بواحدة جديدة ممتلئة بالأذكار والقرآن. من ثمّ يتلقّف شيوخ الدعوة التائب ليبدأ مسيرته في البرامج الخاصة بمساجد الجمعية ومقارها، ويطرح المنهاج التربوي لشيوخ «ابن باز» السعودية نموذجاً فكرياً ودينياً وحتى شكلياً، فيسارع الملتحقون بـ«قوافل التائبين» إلى لبس الجلابية القصيرة والشماغ. كذلك يتصدر «كتاب التوحيد» لمحمد عبد الوهاب باكورة ما يتلقّاه المبتدئون في مسيرتهم التربوية.
سجد طلاب أمام زملائهم معلنين توبتهم من المعاصي

«من وجهة نظر دينية، ليس هناك ارتباط بين شكل اللباس وجوهر الدين»، يقول الأستاذ محمود أحمد الذي يعمل معلماً للتربية الإسلامية في إحدى المدارس الحكومية، «انسجمت ملابس النبي مع ما يلبسه مجتمعه، فاللباس سنّة مجتمعية وليست دينية، ودليل ذلك أن ملابس كفار قريش كانت مشابهة لملابس المسلمين، وإن كان من ضرورة لغطاء الرأس فالحطة والعقال الفلسطينيين يمكن أن يصلحا، فلماذا الشماغ السعودي؟».
يجيب الشيخ رامز الحلبي، وهو باحث في علوم التاريخ والعقيدة، بأن «نشاطات ابن باز تستخدم قداسة الدين لإحداث خرق نفسي في المجتمع؛ فالتجمعات الدعوية التي ظاهرها الدين والدعوة، تهدف في باطنها إلى تمرير السياسات السعودية، وإقامة هالة من التنزيه للأداء الديني والمجتمعي وحتى السياسي لدولة آل سعود المرتهنة للسياسات الأميركية والإسرائيلية». وما هو ملاحظ في هذا الإطار، أن «دعاة ابن باز» يحتكرون العلم الديني في أعلامهم ومشايخهم فقط، ولم يُسمع خلال «الملتقيات» ذكر لعلماء الأزهر والشام مثلاً، فالحديث عن ابن عثيمين وابن باز ومحمد بن عبد الوهاب، إضافة إلى حضور ابن تيمية بقوة في المنهاج الدعوي والثقافي.
لكن، هل يمكن لنشاطات «ابن باز» أن تحقق هدفها؟ يرى الحلبي أن الشعب الفلسطيني في معظمه «مؤطّر حزبياً، لذا لا يمكن لنشاطات الجمعية السعودية أن تجد ضالتها إلا عند جمهور الفقراء وأصحاب المصالح النفعية». يتابع: «من واجب الدعاة اليوم أن يظهروا الدين النبوي السمح، الذي يرغّب في الحياة المستقيمة المنتجة، لا دين البداوة والصحراء الوهابي».
على نحو مواز،ٍ حاولت وزارة الأوقاف والشؤون الدينية في حكومة غزة السابقة سحب البساط من هذه الجمعية عبر مبادرتها إلى استنساخ «الملتقيات الدعوية». فقد عقدت مؤخراً «مجلسين دعويين» وسط وشمال قطاع غزة، تبعهما أربعون «مجلساً دعوياً» في مدارس المراحل الأساسية والثانوية. لكن «الأوقاف» وقعت في حبائل التقليد الأسلوبي والموضوعي، فتغيّرت الجهة الراعية مع بقاء المضمون كما هو. وتعمل الوزارة في المدارس باسم «مجموعة سفينة النجاة»، فيما أثارت المقاطع المصوّرة لهذه النشاطات سخرية وانزعاجاً لدى كثيرين عبر مواقع التواصل الاجتماعي، خاصة أنها تستهدف طلاباً صغاراً (ما بين 12 ــ 16 عاماً)، يأتي بعضهم ليسجد أمام مئات من الطلبة معلناً توبته من المعاصي!




حمتّو: فرق بين الخطاب الديني الفطري... وبين المغشوش

مع ترحيب الأوساط الدينية بأي جهد دعوي بصورة عامة في غزة، فإن الداعية عماد حمتّو (الصورة) يرى أن ثمة فرقاً كبيراً «بين جوهر الخطاب الديني الحقيقي، الذي يحتاج إليه أهل غزة المسلمون بالفطرة، وبين الخطاب الديني المغشوش الذي يصبّ في طريق الغلوّ والتشدد». ويضيف في حديث إلى «الأخبار» أن «فطرة الإسلام موجودة عند الناس، ولكن أكثر ما يحتاجون إليه هو الفقهاء وليس الخطباء... هناك فرق بين الفقيه الذي يعرف في مقاصد الدين والشريعة، وبين الخطيب الذي تنحصر مهمته في دغدغة العواطف فقط ومخاطبة الجوارح دون العقل».
ويشدّد حمتّو، وهو صاحب برنامج «قلوب حائرة» الإذاعي، على ضرورة «تصدّر الفقهاء للمشهد الديني في المجتمعات...». الفقيه حسبما يرى «لديه بصيرة يخاطب فيها العقل والقلب وليس الجوارح فقط، لأن الله يقدم الحكمة على الموعظة»، محذّراً من «عواقب التشدّد والغلوّ على الأمة والمجتمع».