يبدو واضحاً أنّ الموقف الفرنسي الموحّد الذي حظي به الرئيس فرانسوا هولاند، عقب الهجمات التي شهدتها باريس في شهر كانون الثاني الماضي، لن يتكرر اليوم. خلاصة يؤكدها واقع اصطدام نداء الرئيس إلى «الوحدة الوطنية... الضرورية» بانتقادات المعارضة لسياسته الأمنية واستراتيجيته في سوريا، وذلك بالتزامن مع اقتراب استحقاقات انتخابية محلية.
وعقب لقاء جمع الرئيس الفرنسي بسلفه، زعيم «حزب الجمهوريين» (اليميني)، نيكولا ساركوزي، طالب الأخير بإجراء «تغييرات جذرية» تطال السياسة الأمنية، إضافة إلى دعوته إلى تشكيل تحالف جديد ضد «داعش»، يضم روسيا. ورغم أنّ ساركوزي أكد دعمه «كافة القرارات التي ستذهب في اتجاه تعزيز التدابير الأمنية بشكل كبير»، غير أنّ صحيفة مثل «ليبيراسيون»، أشارت في عنوان خبر لقاء الرئيسين إلى أنّ «ساركوزي دفن الوحدة الوطنية».

الحرب التي بدأناها
ترتدّ الآن علينا، في أرضنا وأحيائنا

وكان موقف رئيسة حزب «الجبهة الوطنية» (اليميني المتطرف)، مارين لوبن، قريباً لموقف ساركوزي. وقالت إنّ «فرنسا والفرنسيين لم يعودوا في أمان»، مشيرةً إلى أن «فرنسا أصبحت معرضة للخطر، ويجب أن تستعيد السيطرة على حدودها الوطنية على نحو نهائي». وقالت إن على فرنسا تحديد حلفائها، وأعدائها، مضيفة أنّ أعداء فرنسا يتمثلون في الدول التي لها صلات بالإسلاميين.
وفي السياق، رأى المحلل السياسي الفرنسي، جيروم سانت ماري، أن هولاند لا يستطيع أن يأمل الحصول على الدعم غير المشروط عملياً الذي جرى التعبير عنه بعد الموجة الأولى من الاعتداءات في كانون الثاني/يناير 2015. وفي تلك الفترة سجلت شعبية الرئيس، التي كانت في أدنى مستوياتها، قفزة لافتة، قبل أن تعود وتتراجع حيث بات أقل من ثلث الفرنسيين يعبّر عن تأييده له.
ولفت سانت ماري إلى أنّه في هذه المرة، وبعد «ردّ فعل فوري من التضامن من قبل الرأي العام»، قد يواجه الرئيس «انتكاسة ربما تكون مؤلمة جداً». ورأى أن «تكرار الأوضاع يمكن أن يؤدي إلى إعادة نظر سياسية في خيارات الإليزيه، وإلى انتقادات تتناول من جهة فعالية الوقاية والجانب الامني ولكن من جهة أخرى أيضاً الجانب الدبلوماسي. والسؤال المطروح هو: هل الخيارات الفرنسية في المجال الدبلوماسي جيدة؟».
حتى رئيس الوزراء الفرنسي الأسبق (في عهد الرئيس جاك شيراك)، دومينيك دوفيلبان، دعا، في تصريحات إعلامية أمس، إلى أنّ تستعيد فرنسا دوراً متوازناً، خاصة في الشأن السوري، بغية تكريس ظروف الحل السياسي في سوريا. وقال إنّ «التحرك يجب أن يكون سريعاً لتهيئة الظروف لإنهاء داعش»، داعياً في فترة أولى إلى «التباحث مع نظام (الرئيس) بشار الأسد» حتى ولو أنه في محصلة العملية السياسية على الأسد أن يرحل.
وأرجع دوفيلبان ما يحصل اليوم إلى «مسار تاريخي تنامى مع التدخلات في أفغانستان، العراق، ليبيا، وغيرها من المناطق، وهي تدخلات سكبت الزيت على النار». وقال «لنستخلص الدروس من التجارب: الأمور تتفاقم منذ عشر سنوات، الأوضاع أسوأ في ليبيا، أفغانستان، والعراق».
بدوره، دعا آلان جوبيه، رئيس الوزراء الأسبق والمرشح إلى الانتخابات التمهيدية اليمينية والمعروف بمواقفه المعتدلة، إلى الوقوف «كتلة واحدة» وراء السلطة التنفيذية، كما دعا إلى «الذهاب أبعد» بتعزيز «الوسائل التكنولوجية لأجهزة الاستخبارات و»الوسائل البشرية» المخصصة للجيش والشرطة والقضاء. لكن جوبيه قال أيضاً إن «من الضروري توضيح أهداف الائتلاف الدولي (في سوريا) الذي يعدّ غير فعّال اليوم». وقال «اليوم، هناك تراتبيات، هناك أولويات، يجب سحق داعش».
من جهة أخرى، كان زعيم «جبهة اليسار»، جان لوك ميلانشان، أقلّ حدة تجاه سياسات الرئيس الفرنسي، وركز في مداخلاته على جانب آخر. فرأى أنّ «أعداء فرنسا»، الذين نفذوا الاعتداءات، «يريدون تقسيمنا. يريدون تكريس شرخ بين المسلمين وبقية المجتمع، ويجب أن نقول بقوة: إنّ الإسلام لا علاقة له بذلك».
وتعكس مجمل هذه التصريحات تغيّر الظرف السياسي في فرنسا. فرغم أشهر من عمليات القصف في العراق وسوريا، أخفق «التحالف الدولي» في صدّ تنظيم «داعش»، ما أدى إلى دعوات المعارضة في فرنسا إلى تحرك أوسع منسّق مع روسيا، وحتى مع نظام الرئيس السوري، بشار الأسد، برأي البعض.
ويأتي ذلك قبل عام ونصف عام من موعد الانتخابات الرئاسية في 2017. وفيما تقوم الأحزاب بحملة لاقتراع إقليمي في كانون الأول/ديسمبر، يُتوقع أن يمنى فيه «الحزب الاشتراكي» الحاكم بهزيمة.
وبعد نحو يومين من الاعتداءات الأكثر دموية في تاريخ فرنسا، احتلت أعمدة الصحف الفرنسية الصادرة أمس مشاعر الحزن والغضب ومناشدات للوقوف صفاً واحداً ضد «التطرف الجهادي»، ولكن أيضاً دعوات إلى «ردّ الضربة بمثلها».
عنوان «الأسى والغضب» تصدّر صحيفة «لوفيغارو» التي، على غرار «ليبراسيون»، صدرت استثنائياً، أمس. وعنونت «ليبراسيون»، «أنا باريس»، مستعيدة في ذلك شعاراً يجري تداوله على نطاق واسع عبر شبكات التواصل الاجتماعي.
أما «لوباريزيان/أوجوردوي آن فرانس»، التي صدرت في عدد خاص، فعنونت «فلنقاوم». وكتبت «لوموند» أن «فرنسا في حرب. في حرب ضد إرهاب شمولي، أعمى، قاتل على نحو رهيب»، فيما حذّرت «لوفيغارو» من أن «هذه الحرب، الآن وقد فهم الكل ماذا تعني، قد بدأت لتوّها ليس إلا».
من جهة أخرى، انتقدت صحيفة «ميديابارت» الإلكترونية السياسات الفرنسية في مناطق النزاعات التي تدخلت فيها فرنسا، ومن ضمنها سوريا.
ورأى الصحافي، إيدوي بلينل، أن هذا الإرهاب يستهدف في الدرجة الأولى تنوّع المجتمع الفرنسي، مضيفاً أنه «أمام هذا الخطر الذي يواجهنا، لا يجدر بنا أن نترك مستقبلنا وأمننا في يدِ من يحكموننا. إذا كان واجبهم حمايتنا، فليس علينا أن نقبل بأن يقوموا بذلك رغماً عنّا، وضدّنا، ومن دوننا».
ورأى بلينل، أيضاً، أن الفرنسيين لن يتمكنوا، بشكلٍ جماعيّ، من مقاومة هذا الإرهاب ما لم «نملك الإجابات حول الأسباب التي أوجدت هؤلاء (الإرهابيين)». وأكد أن من حقّ الفرنسيين مساءلة الحكومة حول سياساتها الخارجية وعقدها الأحلاف مع أنظمة ديكتاتوريّة و«ظلاميّة»، «مثل مصر والسعودية»، إضافة إلى «خوضها مغامرات عسكريّة»، واعتمادها «خطاباً سياسياً قصير النظر (خصوصاً حول الإسلام)، خطاب يفرّق بدل أن يجمع، يغذي الكراهية بدل ردعها، ويعكس خوف من هم في الحكم ولا يحرّك الشعب».
أمّا الصحافي في الموقع نفسه، توماس كانتالوب، فقد رأى، كذلك، أنّ فرنسا تخوض حرباً منذ أربعِ سنوات، معتبراً أنّ التدخل الفرنسي في سوريا كان خطأً سياسياً. وقال إنّ «الزمن الذي كانت تتدخل فيه فرنسا في الشرق الأوسط من دون عواقب تذكر، قد انتهى».
وسأل الصحافي: «من تقاتل باريس في سوريا؟ بشار الأسد أم داعش؟ الاثنين، يجيب فابيوس وهولاند. لماذا دعمت فرنسا جماعات مسلحة في سوريا أعلنت ولاءها لجبهة النصرة؟». وأضاف: «لماذا تدعم فرنسا بالسلاح المملكة العربية السعودية وغيرها من ممالك الخليج، التي تشكّل، تاريخياً، الداعم الأول للمنظمات الإرهابية ومنبعها الإيديولوجي؟».
وفي السياق، طرح مقال في مجلة «بوليتيس» الفرنسية إشكالية مسؤولية الحكومة الفرنسية حيال الأحداث التي حصلت في باريس، مشيراً إلى «اعتبار أننا نحن من بدأ الحرب»، بحسب ما ينقل مقال عن المسؤول السابق في وزارة الدفاع الفرنسية، بيار كونيسا.
وأضاف، نقلاً عن كونيسا، أن فرنسا بدأت الحرب، «تحت شعار الديموقراطية (ولكن في الواقع لوضع اليد على الموارد الهائلة الموجودة في هذه الدول)، أولاً ضدّ أنظمة شرعية، مثل نظام (الرئيس) بشار الأسد، الذي شكّل الضمانة في بلاده ضدّ الوباء الإسلامي».
ورأى كونيسا أن «الحرب التي بدأناها ترتدّ الآن علينا، في أرضنا وأحيائنا. إننا نلمس الآن نتائجها، وإننا نتحمّل مسؤولية ما يحصل». وذكّر المقال باعتبار وزير الخارجية الفرنسي، لوران فابيوس، في 13 كانون الأول 2012، أنّ العمل الميداني الذي تقوم به «جبهة النصرة، جيد».
(الأخبار، أ ف ب)