لم يعد الشمال السوري مجرّد مسرح تتداخل فيه القوى الكردية تحت الرعاية الأميركية مع قوى معارضة محسوبة على تركيا أو «داعش». فمنذ تسارع العمليات السورية المدعومة بغطاء جوي روسي في ريف حلب الشرقي لتهدّد دير حافر، بوابة الرقة، تعقّدت منطقة العمليات، ليضاف إليها «التوافق» الدولي الذي أظهرته لقاءات فيينا و«مجموعة العشرين» حول أولوية قتال «داعش».
وإذا كانت مستجدات المشهد الدولي الجديد (التي، وللمفارقة، هيّأها «داعش» بنفسه بعد هجمات باريس) قد منحت واشنطن وحلفاءها دفعاً جديداً وعاملاً ظاهرياً مباشراً لتكثيف دعم «الأذرع المسلحة» على الأرض السورية، فإن نجاح الجيش السوري وحلفائه في قلب المعادلة الميدانيّة بدءاً من مطار كويرس وصولاً إلى تخوم الباب (أبرز معاقل «داعش» في ريف حلب الشرقي) كما إلى أوتوستراد حلب ــ الرقّة، يبدو سبباً جوهريّاً كافياً لنقل تعامل المحور الأميركي مع المسرح السوري إلى مستوى جديد. عملياً، هو سباق بين واشنطن وحلفائها من جهة (تلعب أنقرة فيه دوراً رئيسياً)، والجيش السوري وحلفائه من جهة أخرى، إذ يسعى كلّ من الأطراف إلى قضم أكبر «حصّة» من المناطق قبل الجلوس إلى طاولة المفاوضات. ويبدو جليّاً أن المحور الأميركي يعمل في المرحلة الراهنة على تحقيق أهداف عدة في الميدان، بدءاً بفرض واقع جديد يبدّل «داعش» في الشمال بقوى حليفة تسحب الغطاء عن موسكو المتذرعة بقصف التنظيم المتطرّف في كلّ مكان، وصولاً إلى إبعاد الخطر المحدق بـ«المناطق المحررة»، وفرض توازنات جديدة تعيد الأمور إلى نصابها «الأميركي ــ التركي» بعد أن خرجت عنه بفعل التقدم الذي يحرزه الجيش السوري على غير جبهة.

خوض الحرب عبر «الأدوات» يظهر عدم اقتناع «أطلسي» بإرسال جنوده إلى الأرض



ويعبّر الدعم الكبير الذي منحه «التحالف» الأميركي لعمليتي تحرير الهول (شرق الحسكة) وسنجار (غرب الموصل)، لربط الحدود السورية ــ العراقيّة بالتعاون مع القوات الكرديّة في سوريا والعراق، تحت إشرافه، عن هذا التوجه.
كذلك، يمكن اعتبار «الحصص» الأميركية في الشمال حتى الآن، هي تلك المقضومة من مناطق سيطرة «داعش»، مع الاخذ بعين الاعتبار عدم إضعاف التنظيم على نقاط تماسه مع السوريين. وهو ما عكسه تباعاً هجوم التنظيم على مدينة الحسكة ومحاولته السيطرة على كامل مدينة دير الزور ومطارها المحاصر، وتقدّمه في تدمر، ولاحقاً في مناطق أخرى في ريف حمص الشرقي (القريتين، مهين...). المضي في سيناريو خوض الحرب عبر «الأدوات» يُظهر أنّ الولايات المتحدة، وبالتالي الحلف الأطلسي، لم يصلوا إلى اقتناع يفضي إلى إرسال جنودهم لخوض حرب مباشرة ضد «داعش». واشنطن التي تراهن جنوباً في الدرجة الأولى على «جيش الـCIA» (برنامج وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية للتدريب والتسليح والتزويد بالمعلومات الميدانية لآلاف المقاتلين في «الجبهة الجنوبية في الجيش السوري الحر» بكلفة مليار دولار سنوياً)، وجدت لها أخيراً حصانين أسودين جديدين في الشمال: «جيش سوريا الجديد»، و«قوات سوريا الديمقراطية». وأمس، أعلن وزير الخارجية الأميركي جون كيري أنّ بلاده بدأت عملية مع تركيا لإغلاق ما تبقى من حدودها مع سوريا. أما التفسير الفعلي لهذا الإعلان فيعني أنّ كيري، الذي سبق له أن وضع الخط الممتد من عين ديوار (أقصى الشرق السوري) إلى عين العرب (حوالى 75% من الشريط الحدودي مع تركيا)، تحت حماية أصدقائه الأكراد، أعلن أخيراً البدء بـ«تسوية وضع» آخر 98 كيلومتراً متبقية (من جرابلس إلى أعزاز) بالتعاون مع أنقرة. اللافت أن الحديث عن غارات أميركية وتركية موعودة في تلك المنطقة «المتبقية»، تزامن مع إعلان «قوات سوريا الديمقراطيّة» توسيع حضورها من خلال انضمام ستة فصائل عربيّة جديدة عاملة في حلب وإدلب (أبرزها الفرقة 30، لواء شهداء إدلب، اللواء 99 مشاة، ولواء 455 مهام خاصّة، لواء السلاجقة). الناطق باسم «قوات سوريا الديمقراطية»، طلال سلو، أكد لـ«الأخبار» أنّ «ستة فصائل جديدة انضمت إليها موجودة في ريفي إدلب وحلب، التي ربّما ستشهد عمليات لهم في المحافظتين»، مشيراً إلى أن «لدينا مشروعاً لربط مدينتي عين العرب وعفرين في ريف حلب الشمالي، وكان من المفروض أن تكون أوّل عملية لهم قبل ريف الحسكة». ولفت إلى أنهم «لن يبادروا حالياً إلى الهجوم على جيش الفتح وجبهة النصرة، لكن سيردّون بعنف على أي هجوم يستهدفهم»، في إشارة إلى حشود لـ«جبهة النصرة» في محيط مدينة عفرين. سلو فسّر تصريحات الوزير جون كيري، حول بدء التنسيق مع تركيا لإغلاق ما تبقى من حدودها، بـ«أنه يقصد إغلاق الحدود من الجانب التركي، ومراقبة الحدود من قبل التحالف، ولا يعني وجود أي عملية داخل سوريا، أو إيجاد منطقة آمنة». كذلك، تزامن الإعلان عن الخطوات الأميركية المرتقبة لـ«ضبط الحدود والسيطرة عليها» مع تسجيل «جيش سوريا الجديد» إعلاناً بارزاً عن وجوده رسمياً عبر خطوتين متزامنتين: الأولى تمثّلت في رفع راية «الجيش الحُر» في مدرسة الأمين وسط مدينة البوكمال، أول من أمس، قبل أن يزيله عناصر «الدولة»، والثانية عبر اشتباكات متقطعة ضد عناصر «داعش» في الساحة العامّة وحي الطوبيّة وسط البوكمال أمس، أنهاها «داعش» قبل «اختفاء» المنفذين. وهذه الحوادث تُذكّر بجماعة «الكفن الأبيض» (التي سبق أن نفّذت عمليات اغتيال عدة لعناصر من «داعش» في أرياف دير الزور) التي يبدو أن الحلف الأميركي نجح في استمالتها بعد أكثر من عام على ظهورها في ريف دير الزور، وباتت منضوية تحت راية «الجيش الجديد». ولا يبدو تكثيف «التحالف» غاراته على الشعفة والبوكمال المتزامن مع هذه العمليات منفصلاً عن الخروقات التي أحدثها «جيش سوريا الجديد». وهو ما يعني أن واشنطن تخطّط للاعتماد عليه لإكمال عملية إغلاق الحدود السورية العراقية المقابلة لدير الزور، وهو ما يتكامل مع عمليات «قوات سوريا الديمقراطيّة» في ريفي الحسكة الشرقي والجنوبي. كذلك، فإن الغارات الـ12 لـ«التحالف» التي استهدفت حقلي العمر والجفرة ليست منفصلة عن عملية «الكوماندس» التي قامت بها ست طائرات تابعة لـ«التحالف»، أمس، واستهدفت حقل التنك النفطي شرق دير الزور. العملية جرت عبر أربع طائرات حربيّة ومروحيتين هبطتا داخل الحقل، أعقبها اشتباكات مع عناصر «داعش» لمدة نصف ساعة، لينتج منها تعطيل كافة معدات الحقل، حسب مصادر متابعة، الأمر الذي يمكن إدراجه في خانة «تجفيف مصادر داعش المالية».

«المنطقة الآمنة»

وسط هذا التسارع، لا بدّ من استعراض التطورات عبر نافذة اللاعب التركي الذي يبدو حتى الآن الرابح الأكبر. الفيتو التركي على أي تمدّد لـ«وحدات حماية الشعب» شرق عين العرب (كوباني)، قابلته «مرونة» أميركية، أفضت إلى خلق قالب عربي ــ تركماني يكون الأكراد جزءاً منه تحت اسم «قوات سوريا الديمقراطية»، ثمّ أعادت واشنطن إحياء مجموعات إخوانية وعشائرية كانت عاملة في دير الزور تحت اسم «جيش سوريا الجديد»، ما يعني أن واشنطن، وانسجاماً مع مؤشرات البوصلة التركيّة، باتت تتعامل «بالمفرق» مع الوجود المعارض السوري في الشمال عبر أذرع متعدّدة، لا سطوة كردية عليها، وتُبقي لأنقرة ساحة عملياتها وتتجنّب مشكلتها «القومية» مع الشريط الكردي الحدودي.
وتعتبر أنقرة سبّاقة إلى العمل وفق أسلوب «المفرّق» في المشهد السوري، فهي التي حافظت على امتداد السنوات السابقة على مبدأ «توزيع البيض على كل السلل»، بدءاً من المجموعات التركمانيّة، مروراً بمكوّنات «الجبهة الشاميّة»، إلى «جيش الفتح»، و«داعش»، و«الحزب الإسلامي التركستاني»، وصولاً إلى «جيش سوريا الجديد». وليس من المتوقّع إزاء سير الأحداث كما تشتهي أنقرة أن تتخلّى الأخيرة عن حلمها الأبرز «المنطقة الآمنة». وعلى الرغم من صعوبة الإقدام على خطوة مماثلة في ظل حرص موسكو المتزايد على تكثيف حضورها في الأجواء السوريّة، غيرَ أن المراحل المقبلة قد تشهد عودة الأتراك إلى عزف الأسطوانة ذاتها، مع تعديلات قد تطاول البقع الجغرافيّة المقترحة لتلك المنطقة.