نظرة عبر المرآة الخلفية قد تكفي للوقوف على تبدّل الواقع في أميركا اللاتينية. تلك الدول التي بدأت تُراكم "الانعطافات نحو اليسار" في بدايات العقد الماضي، ها هي تشهد على خروج الحكم من أيدي تلك القوى، في مشهد سُجلت آخر فصوله، فجر أمس، حين صوّت النواب البرازيليون على إجراء يمهّد الطريق لإقصاء الرئيسة، ديلما روسيف.
جاء القرار بحق روسيف (خليفة الرئيس البرازيلي الكاريزمي، لولا دا سيلفا) بعد عام طويل، تخللته "نكسات يسارية" عدة في دول أميركية الجنوبية، قد يكون أهمها وصول ماوريسيو ماكري إلى الرئاسة في الأرجنتين، معلناً "مرحلة جديدة"، كان من علاماتها استقباله نظيره الأميركي، باراك أوباما، في بوينس آيريس قبل نحو شهر.
في ذلك الوقت، كمنت أهمية تلك "الانعطافة" على مستويين: أولاً، هي جاءت كردة فعل غير أوروبية على مسار التوجهات النيوليبرالية الخانقة، التي كانت تفرض نفسها خصوصاً منذ عقد الثمانينيات، وثانياً لأنّ المرحلة التي افتتحتها "الانعطافة نحو اليسار" في أميركا اللاتينية، يمكن النظر إليها كتاريخ رمزي وضع حداً لفرضية ضياع "التصورات اليسارية" عقب سقوط جدار برلين.
تعدد مشارب وخلفيات الشخصيات التي وصلت إلى الحكم في تلك الفترة، مثل هوغو تشافيز، ولولا دا سيلفا، وايفو موراليس، لم يمنع التلاقي وفرض دول أميركا الجنوبية لنفسها كندّ للجارة الشمالية الكبرى، الولايات المتحدة، التي اتصفت سياساتها بتاريخ حافل في دعم الانقلابات ضد شخصيات مزعجة لها (يبقى الانقلاب ضد سلفاتور اليندي مثلاً حياً حتى يومنا).
ومنذ العقد الماضي، بدأت تلك الدول تظهر على مسرح السياسة الدولية كطرف طامح للعب دور يعكس حجمه الحقيقي (قبل 2010، لعب الرئيس البرزايلي السابق دوراً مهماً في ملف إيران النووي). حتى أنّ مفكراً مثل نعوم تشومسكي كان يتحدث عن واقع أميركا اللاتينية بالقول: "يحصل شيء جديد تماماً، إذ منذ الغزو الإسباني، كانت (كيانات) أميركا اللاتينية منفصلاً بعضها عن بعض، وكانت القوة الإمبريالية تجتذبها... أما راهناً، فللمرة الأولى بدأت تلك الدول بالاندماج وفقا لمسارات مغايرة".
نتيجة المشهد الحالي، قد يمكن القول إنّ مرآة واشنطن على الجنوب، لن تعكس صوراً "مزعجة". لكن تبدّلُ المشهد لا يعني أنّ "اليسار اللاتيني" دخل مرحلة التقهقر، خصوصاً أن بعض المتخصصين يذهبون إلى الحديث عن مجالات سياسية جديدة أنتجتها الفترة السابقة، وبالتالي فإنّ البديل لا تحدده المرحلة الحالية، ولا يعبّر عنه من يمسكون بالسلطة الآن.