البيت هو العراء حيث تتعطّل الأحاسيس في رتابة الرغبات. هنا يعيش الناس، يحلمون أحلامهم الصغيرة ويتوارثون المهن والمتاعب، ويموتون في صمت... ذلك الموت الذي لم يعد يمثل أي قيمة بحدّ ذاته. لعل أبطال عتيق رحيمي لا يحملون أيّ وهم بالخروج. انكشف زيف أحلامهم وترك الهلع بصمة على أجسادهم المكدودة، الذليلة والمحتقنة بكتمان ما اجتازوه من دون أن ينبسوا
بكلمة.

تمتد الحيرة خرساء إزاء هذا العالم السري والمنتهَك، ويجد القارئ نفسه يتمتم بالأدعية والصلوات مع امرأة تحسب عدد أنفاس زوجها الذي يُحتضر بين يديها بعدد التسبيحات. الأحداث الكبرى، كالحرب والدمار وتحركات المسلحين، هي أشبه بديكور أو خلفية تُحيط ببيوت صغيرة تؤدي هبة نسيم إلى هدمها، لينكشف أناس في وحدتهم المحاصرة الخالية من الحرية، في محنة وجودهم وانكفائهم، لا ينتمون إلى أيّ مكان معين، بل إلى العالم بأسره.
بالهواء، بالألم، بالمناورة، يكتب عتيق رحيمي. يبدو كأنه يستخدم الممحاة أكثر مما يستخدم القلم. المنهج الذي يسلكه الكاتب الأفغاني يقدّم احتمالات جديدة للتعاطي مع المفهوم القصصي والسردي. لغة شديدة التأني وغير بعيدة في الوقت نفسه عن سلطة الجملة الشعرية، قد تبعث فينا الشعور بالغثيان أحياناً.
غثيان لا بدّ منه. ما دامت أفغانستان هي اللمبة التي يكتب تحت ضوئها.
نُدرك مسبقاً استحالة الذهاب بالأحلام إلى نهاية الطريق، لا شيء سوى عودات، كما ساعة الرمل

«لستُ ضعيفة كصفصافة يهزها النسيم/ أنا امرأة أفغانية تنوح تصرخ في إحدى قصائدها ناديا أنجومان الشاعرة الأفغانية التي قضت تحت الضرب المبرح على يد زوجها الأصولي». الحادثة ألهمت رحيمي روايته «حجر الصبر» (2008)، المتوّجة بـ«غونكور»، واقتبس منها آخر أفلامه من بطولة الإيرانية المنفية في فرنسا غولدشيفتيه فاراهاني، ممثلته الفيتشية.
يجر رحيمي كل حواسنا إلى بيت ضيق.
يترنح مثل قارب يطوّحه الهواء حيث تُغيّر امرأة أكياس المغذي وتضمد جراح زوجها المجاهد الذي قاتل على كل الجبهات، ضد كل الأعداء، وتلقى رصاصة في عنقه بعد شجار بائس مع رجل من معسكره الخاص بسبب شتيمة. الزوج العاجز والصامت كحجر الصبر، سينفجر أخيراً ــ كما تقول الأسطورة ــ أمام أسرار ومكاشفات في غاية الجرأة توغل فيها الزوجة أثناء رعايتها له، يغريها صمته فيتبادلان الأدوار، هي من تتكلم وهو يصمت. ستتجلى العيوب والنواقص ويسطعُ الإثم، لكن اللعبة تنتهي حين يغافلها ضارباً رأسها بالحائط. لا أسماء في الرواية، كأن الزوج هو كل رجل أفغاني، وكل زوجة هي أنجومان: إنهما معاً ومنفصلان كلٌّ على حدة، لطالما كانا خائرين وغريبين وغائبين أحدهما عن الآخر، إذن، مثلما يستخلص مارك ستراند «لمَ نبدو إلى الآن منتظرين شيئاً سيكون ظهورُهُ اختفاءَهُ:». في أولى رواياته «أرض ورماد» (2000)، يُبقي حدود انفعاله داخل كادر معين، مثبتاً عناصر المكان، لكنه يعمل على إقصاء الزمن من علاماته ودلالاته الآنية، ذلك أن الزمن هو دوماً ماض، سابق، منتهٍ، واسترجاعه يتم بدقة عالية حين يتعقب الجد داستاغوير في رحلته من قريته إلى المنجم لإخبار ولده بالمأساة التي حلت بعائلته وشعوره بأنه ذاهب ليغرز خنجراً في قلبه.
يصطحب معه حفيده ياسين، الطفل الذي نجا لكنه فقد السمع من دون أن يعي ذلك، ليظن أن القنابل والدبابات أخذت أصوات الناس ورحلت. أمام الجد تنفتح الطريق لامتناهية بفعل الألم، ألم قاطع مثل شفرة تنبثق من
الفم.
بدأ صاحب «ملعون دوستويفسكي (2011) تعليمه في إحدى المدارس الفرنسية في كابول، وغادر إلى باكستان سنة 1984 إثر اشتداد الحرب بعد الاجتياح السوفييتي لأفغانستان، ثم إلى فرنسا لتكون منفاه الاختياري. بين الفارسية والبشتونية والفرنسية، بنى نصه على معمار الذاكرة.
مثل صانع زجاج مُدرّب يضع كتلة الذكريات السائلة بين كفيه، وله أن يشكّلها ويطوّعها بالشاهنامة والدين والشعر الصوفي، ويتلمس نتوءاتها من دون أن يحرمنا متعة اللسعات أحياناً، متعة الوجع المفاجئة.
بأسلوب مونتاجي متقطع، ما بين الحلم واليقين الحسّي، تتدبر شخصياته جوعها، بردها، ذعرها، ضمن مساحة مخنوقة من دون أمل، معاقبةً دوماً بجسد مشوّه مُهان هو خريطة الحرب.
في بلد يطفو في غيوم من الحشيش، يصبح الخيال بديلاً يسد فراغات الواقع، ويتساءل فرهد بطل «ألف منزل للحلم والرعب» (2002): «ألا يتراءى في الحلم كل شيء أكثر واقعية من الواقع؟ في العمق، هكذا يعمل الفكر الإنساني. علينا أن نؤمن بأن الإنسان يميل إلى أحلامه أكثر مما يميل إلى الواقع. وإلا كيف أمكن لكل هذه الثورات والحروب والإيديولوجيات أن تنوجد؟».
نُدرك مسبقاً استحالة الذهاب بالأحلام إلى نهاية الطريق، لا شيء سوى عودات، كما ساعة الرمل تنقلب ليصبّ الرمل من جديد.