ليس من وصف أكثر بلاغة لوصول الرئيس حسني مبارك إلى السلطة في مصر بعد اغتيال الرئيس السابق محمد أنور السادات، من قول الشاعر العراقي الكبير مظفّر النوّاب «(...) ومَنْ أُخْرِج كالقنفذ من تحت المقاعد»، وهي إشارة إلى وجود مبارك في المنصة التي تعرضت لإطلاق النار، وانبطاحه أرضاً خوفاً من الرصاص. وقد شهد حكمه توالي عشر حكومات تعاقبت على استنزاف الشعب المصري وإفقاره، وخصوصاً حكومة أحمد نظيف، التي شهدت ظهور أكبر عدد من الوزراء من رجال الأعمال، في دليل على تحالف الرئاسة المصرية والشريحة المقربة منه مع شريحة رجال الأعمال، وهو ما يعني أن الشعب المصري أصبح من دون محام.
حين تولى مبارك الرئاسة (14 أكتوبر 1981، باستفتاء شعبي بعد ترشيح مجلس الشعب له)، كان المصريون فرحين بوصول رئيس جديد، يمكنه أن يصلح مظالم سابقه أنور السادات، الذي باع مصر، باسم سياسة «دولة العلم والإيمان»، وشهدت سنواته ظهور البقرات السمان، وأيضاً انتشار قمع سياسي طاول كل مكونات المعارضة المصرية من اليسار ومن اليمين، وهو ما يعني تدمير كل الإصلاحات التي قام بها الراحل جمال عبد الناصر في انحياز للفقراء والمسحوقين في مصر.
وقد عبّر مبارك، في البداية، من خلال بعض المواقف عن تلك التطلعات، لكن الأمر لم يدُم طويلاً، على الرغم من تكراره الذي لا يكلّ عن وفائه للرئيسين السابقين معاً، عبد الناصر والسادات، فقد كانت الوقائع تؤكد أنه بالفعل وريث للسادات، وخصوصاً في الخيارات الاقتصادية، وفي الوفاء بكل الاتفاقات المذلة مع الكيان الصهيوني، وأضاف إليها بيع الغاز للكيان الصهيوني بثمن بخس، مقارنةً بالسوق العالمية، وعدم إدخال القوات المسلحة إلى كل سيناء، والحفاظ على حدود هادئة مع إسرائيل.
صحيح أن مبارك لم يقم أبداً بزيارة دولة علنية لإسرائيل (باستثناء التعزية بإسحق رابين)، لكنه في المقابل كان واضحاً في الانحياز لمكوّن من مكونات الثورة الفلسطينية (حركة فتح بوفدها التفاوضي وسلطتها المسمّاة «وطنية») على حساب المكونات الأخرى (حماس والجهاد الإسلامي وغيرهما) وأدى دوراً في قمع الفلسطينيين، وخصوصاً الحركة الإسلامية، بالأخص أثناء مجزرة غزة، فضلاً عما فعله بغزة، التي فرض عليها حصاراً لسنوات، وعمل على تدمير أنفاق الحياة عند معبر رفح.
أربعة استفتاءات وانتخابات مزورة في 2005 ضمنت لمبارك التربع على عرش مصر طوال ثلاثين عاماً، أطاح في خلالها الموقع الإقليمي لمصر، وأفقر شعبها وأذله، وانتهى في سنواته الأخيرة غير مهتم سوى بطريقة توريث الحكم لفلذة كبده، جمال مبارك.
هكذا، بعدما كانت جمهورية مصر العربية رائدة في التصنيع الحربي وفي الصناعة الثقيلة المدنية، باعتبارها ضمانة لاستقلالية مصر وسيادتها، قام النظام المصري، في عصر مبارك، بتفكيكها وبيعها بأسعار زهيدة، لكل الجشعين. وهو ما كان السادات قد سمّاه من قبل «سياسة الانفتاح». صحيح أن مصر، في زمن مبارك، شهدت بناء عدة منشآت ومشاريع حيوية، مثل مترو الأنفاق في القاهرة والجيزة، وترعة السلام في سيناء ومشروع توشكى وشرق العوينات وإعادة إعمار حلايب ومشاريع إسكان الشباب، لكن مصر بكثافتها السكانية تحتاج إلى ما هو أكثر من هذا، وخصوصاً أن المستفيدين من كل هذه المشاريع والإنجازات قلة قليلة، هم الحلقة الضيقة من النظام التي تتحكم في رقاب العباد.
لقد وصلت الأمور إلى درجة أن الملايين من شعب مصر يعيشون خارج مصر، بحثاً عن لقمة العيش في دول الخليج.
ورأى الجميع كيف تقطعت السبل بالآلاف منهم في العراق أثناء الحرب الأميركية على هذا البلد، حيث معدلات الفساد بلغت مستويات غير مسبوقة، وما انهيار المباني وحوادث القطارات والعبّارات والأدوية والأغذية الفاسدة إلّا نماذج منه.
كان المصريون يتصورون أن مبارك سيغير رأيه من مسألة التعددية السياسية، أي السماح بتعددية حقيقية، والتمكّن من التداول السلمي للسلطة، لكن لا شيء من هذا حدث.
انهمر قمع شديد على التيارات الإسلامية بما فيها التيارات السلمية، وهو ما أدى إلى اصطدامات عنيفة بين أنصار الإسلام السياسي العنفي والنظام.
رفض تعيين نائب له، كما أنه هو من أعلن حالة الطوارئ، التي لا تزال سارية حتى الساعة، وإن كان قد قام في أيلول 2003 بإلغاء 14 مادة بصفته الحاكم العسكري للبلاد من الـ 21 مادة من قوانين الطوارئ المعمول بها منذ اغتيال الرئيس أنور السادات. وفي كانون الأول 2006 أحال 40 من قادة الإخوان المسلمين، في أكبر جريمة سياسية في تاريخ مصر الحديث، على محاكمة عسكرية بصفته الحاكم العسكري للبلاد، القرار الذي قضت محكمة القضاء الإداري بمجلس الدولة في 2007 برفض تنفيذه، لكن عادت محكمة فحص الطعون وأيدت قرار الرئيس.
وإذا كان الشعب المصري يفخر بوجود سلطة موازية للسلطة السياسية تخفف من غلوائها وتلطّف من قوانينها ويلجأ إليها الفقراء والمظلومون وهي مؤسسة القضاء، فقد قام نظام مبارك بتخريب هذه الاستقلالية، التي كانت تفتخر بها مصر طوال تاريخها.
إنّ حرص مصر الشديد على علاقتها مع إسرائيل وتقليم أظافر حركة «حماس»، أو قطع أيديهم، كما تجرأ على القول وزير الخارجية المصري أبو الغيط، إضافةً إلى حماسة مبارك الشديدة (لم تضاهِها سوى حماسة زين العابدين بن علي) لما يسمّى التحالف الأورو ـــــ متوسطي، وهو تطبيع لإسرائيل في المنطقة، وأيضاً دعمه اللا مشروط للجنة الرباعية التي يترأسها طوني بلير، والتي تستهدف القضاء على كل صوت معارض للصلح مع الكيان العبقري، منح الرئيس صفة «الحكيم». ولكن هذه الصفة لم تنفعه في الداخل المصري، الذي يبقى نصيراً للقضية الفلسطينية، على ما عبّر عنه الشارع المصري في أكثر من مناسبة، وأبرزها انتفاضة الأقصى وعدوان غزة 2008.
أما عن موقفه من «المغامرين» اللبنانيين، في إشارة إلى حزب الله في أثناء عدوان تمّوز، فتلك قصة أخرى.
بلغت به الوقاحة (هو والسعودية)، في أوج مخطط للقضاء على المقاومة الإسلامية في لبنان، أن سمح لنظامه بالتفوّه بعبارات كهذه، أراد من خلالها إعلان رفع الغطاء العربي عن هؤلاء «المغامرين» ما سمح لإسرائيل وداعمتها أميركا بشن الحرب التي باتت نتائجها معروفة. سيناريو كرّره مع غزة، يوم كان شعبها يعاني الجوع والمرض وليس هناك من غذاء أو دواء. وقتها، تمسك بإغلاق معبر رفح، في عملية تجويع علنية للقطاع المحاصر، أضفت الشرعية على الحصار الإسرائيلي له.
لقد أصبحت أهمية مصر السياسية، على الرغم من وجود الجامعة العربية في القاهرة ووجود شخصية مصرية على رئاستها، تساوي الصفر. فلا هي استطاعت فرض اتفاق مصالحة على حركة حماس، ولا نجحت في إطلاق جلعاد شاليط، ولا في دعم الجهود الأميركية للتوصل إلى اتفاق سلام، فضلاً عن أنها أخفقت إخفاقاً ذريعاً في دعمها لقوى 14 آذار في لبنان، من دون أن تنجح في الوقوف في وجه النفوذ الإيراني في أكثر من مكان، يتقدّمها العراق، ولا في تجنيب السودان الانفصال القادم قريباً.
لقد انتهى الزمن الجميل الذي كانت فيه الجماهير العربية في كل الأقطار العربية تنتظر خطابات جمال عبد الناصر.
ولجأ الرئيس مبارك إلى جو شرم الشيخ العليل والباذخ، هارباً من تلوث القاهرة ومن سكانها المتعبين ومن المنبعثين من المقابر.
لقد انحسر دور مصر التاريخي، الضروري، عربياً وأفريقياً ومتوسطياً، في عهد مبارك حتى اختفى تماماً.
وقد جاءت هذه الثورة المصرية، وهو عنوان صحيفة لوجورنال دي ديمانش، الفرنسية الأسبوعية، لتاريخ 30 كانون الثاني 2011، لتؤكد أن الظروف مواتية لاقتلاع مبارك ونظام حكمه، تماماً كما فعل الفرنسيون مع الطاغية لويس السادس عشر.
ولعلّ تولي الجنرال سليمان هو شبكة خلاص مبارك للفرار بجلده. والمصريون لا ينتظرون سوى خبر هروب الرئيس.