مثلما صُعقت أجهزة استخبارات العالم القوي بما يحدث في مصر، فإن من احتلوا المنابر والشاشات خلال عقدين أو أقل كانوا أيضاً في خانة المدهوشين. يمكنهم التحدث دون توقف عن التعب والقهر والطريق إلى الانتفاضة. ويمكنهم الادّعاء أنهم يقودون الشباب المنطلق في كل المدن والأحياء والأزقة. ويمكنهم إطلاق العنان لألسنتهم وهم يشرحون الموقف. لكن كل هؤلاء، من الأنظمة والحكومات وأجهزة الاستخبارات، إلى الصحافة والأحزاب والنخب، لم يعد في مقدورهم شرح حقيقة الشباب المقهور، الذي أذلّته السلطات الفاسدة، والخائنة، والظالمة، ودفعته إلى الجدار الأخير، فقرر إطلاق صرخته ولو كانت الأخيرة قبل الرحيل، برصاصة مصوّبة عن عمد، أو ضربة بلطجي مستأجر، ولن يكون في مقدور أحد، حتى الذين سيستثمرون التضحيات والآلام، الادّعاء بأنهم يعرفون عن غدهم شيئاً... أي شيء!.لكن، هل يحق لأحد منع أحد من الاشتراك في ثورة سيكون لها أثرها على كل عربي من المحيط إلى الخليج، وسيكون لها تأثيرها على كل مشاريع الاستعمار في منطقتنا، من أفريقيا إلى الخليج وبلاد الرافدين إلى بلاد الشام، وتحديداً فلسطين؟ بالطبع لا. لذلك، تتحول ثورة مصر الجديدة إلى ثورة تخطف عقل وقلب كل عربي يتسمّر منذ أيام أمام الشاشات يراقب، يسمع وينصت، يناقش ويتأمل. حتى وهو يتخيّل ضابطاً شجاعاً، يقتحم غرفة الطاغية ويجرّه إلى الشارع لكي يحاكمه الثوار ويحاسبوه. وتتحول الثورة إلى حالة عامة، فيها كل الأحلام الكبيرة، تلك التي تعيد إلينا حيوية كادت انتكاسات فلسطين والعراق تأخذها إلى غير رجعة. وسيكون لصوتنا في وجه الطغاة والمجانين ما يرفعه إلى أعلى، وسيكون لرصيد كل الذين قاوموا الاستمعار والاحتلالات الأجنبية في لبنان وفلسطين والعراق وأفغانستان ما يجب صرفه في دعم هذه الثورة وحمايتها. وهي الثورة التي تقوم في وجه الفقر، وفي وجه الظلم وفي وجه الإذلال اليومي، وفي وجه الذين يسرقون كل شيء في حياتنا. من القوت اليومي، إلى الصوت الحقيقي، إلى الإنسان داخلنا، هؤلاء الذين لا يعيشون على جثث الأبرياء والأحرار.
ولكن لا بد من محاسبة الذات أولاً. ومحاسبة الذين كانوا بيننا وكانوا منا، وصفّقنا لهم طويلاً، وسرنا خلفهم، وقبلنا بأفكارهم وردّدنا تبريراتهم أن زمان الثورة لم يحن بعد. ولا بد لنا من الاعتراف بالقصور الكبير الذي أصابنا. بالجمود الذي أصاب عقولنا ونحن نستبعد التغيير. وبالترهّل الذي أصاب تفكيرنا ونحن نستبعد قدرة الناس على الرفض. وبالاستكانة التي لازمت ضمائرنا ونحن ننظر بخجل إلى الفقراء والمضطهدين والمقهورين، بينما نركض نحن صوب منتديات للصراخ ومن ثم ندّعي العجز، وبعدها نغطّ في سبات عميق.
ولا بد اليوم، قبل الغد، وقبل أي تطوّر آخر، سواء أطاحت الثورة الأشرار أم سقط من رجالها الآلاف برصاصهم، لا بد من هزّ أمكنتنا، وهزّ كراسينا، وهزّ عقولنا وأجسادنا، والتحديق إلى وجوهنا وسؤال الأبناء إن كنا أحياءً فعلاً، أو فينا نبض أو روح. ولا بد لنا من الإقرار كلياً، لمرة واحدة وأخيرة، بأن كل آلات القياس التي اعتمدناها منذ زمن طويل لم تعد تنفع لتقدير الموقف، ولم تعد معاييرنا تنفع لقراءة حاجات الناس وحراكهم، ولم تعد تقود إلى رؤية واضحة وكافية لمعرفة ما الذي يحصل في بيوتنا، وما هو سر الأدعية التي تردّدها الأمهات، أو ملل الآباء من نظرياتنا وفلسفتنا، أو رفض الأبناء لكل ما نراه واقعياً، أو غير قابل للتغيير.
ثمة حقائق في ما يجري الآن ليست قابلة للنقض، ولا حتى للنقاش الآن، وهي أن هناك طبقة فاسدة فاقدة للأخلاق وللانتماء الوطني، في كل العالم العربي، يجب أن تصمت، وأن تُكنس دون أي رحمة، وأن يستعاض عن ديموقراطية الغرب المفتوحة بديموقراطية الشارع التي تلفظ الأرذال بعيداً بعيداً.
أشعر بقوة بأن عليّ القول للحكواتي محمد حسنين هيكل إن عليه التوقف عن عروضه المسرحية البائخة. أن يصرخ لمرة واحدة أمام أحفاد ناصر، أو أن يصمت مثل كل مريديه في مزرعة لا بد أن تصل إليها أيدي الثوار وتعيدها إلى فلّاحي النيل!