رموز نظام حسني مبارك يوضّبون أمتعتهم للرحيل. ما عادوا يمتلكون أيّاً من أدوات السيطرة على الشارع الذي انفلت من عقاله. يدركون أن حياتهم يتهدّدها الخطر. يتحسّبون للوقوع أسرى في أيدي ضحاياهم. كل الإجراءات التي اتخذها «سي حسني» لم تُجدِ نفعاً. لا التعيينات السياسية لاقت قبولاً، ولا الأوامر العسكرية لاقت تجاوباً. بل إن المتظاهرين رفعوا سقف مطالبهم، من «رحيل» مبارك إلى «محاكمته». قناعة يبدو أنها انتقلت إلى واشنطن، التي أعلنت رسمياً انقلابها على خادمها الوفيّ، مطالبةً بانتقال سلمي للسلطة.
لا بد أنها قررت اعتماد سياسة الحد من الخسائر، أو بالأحرى العمل على الانتهاء من هذه الأزمة بأقل أثمان ممكنة. ويبقى التساؤل عن هذا الجيش، الذي تراهن عليه الولايات المتحدة ومعها الشعب المصري، رغم هالة الغموض الذي تحيط به وبمواقفه السياسية، من الداخل والخارج.
هو أمر العمليات، تلفّظ به باراك أوباما أمس: انتقال منظّم نحو حكومة تستجيب لتطلعات الشعب المصري. قالها بعد مشاورات أجراها مع بعض قادة المنطقة، وفي مقدمهم زعماء تركيا وإسرائيل والسعودية وبريطانيا. كانت وزيرة خارجيته هيلاري كلينتون قد استخدمت في وقت سابق عبارات مشابهة. نفضت يدها بدايةً من مبارك: الرئيس المصري تعهّد طيلة ثلاثة عقود أن ينفّذ إصلاحات في بلاده، لكنه نكث بوعوده. قبل أن تضيف: واشنطن تعمل على تشجيع الانتقال المنظم والتغيير الذي يلبي المطالب المشروعة للشعب المصري التي ينادي بها المحتجّون. نحثّ حكومة مبارك، التي لا تزال في السلطة، ونحثّ الجيش، المؤسسة التي تحظى باحترام بالغ في مصر، على اتخاذ الخطوات الضرورية لتسهيل مثل هذا الانتقال المنظّم. نريد أن نرى تحولاً منظّماً لا يترك فراغاً يستغله أحد، ونريد ألّا يكون هناك فراغ، وأن تكون هناك خطة مدروسة تأتي بحكومة ديموقراطية قائمة على المشاركة.
فراغ يبدو أنه اليوم سيد الموقف في مصر، حيث المشهد لا يزال ضبابياً. المجتمع يفرغ شحنات العنف التي خزّنها على مدة عقود القهر الثلاثة بأساليب مختلفة. التظاهرات والاعتصامات جزء منها. كذلك الأمر بالنسبة إلى الفوضى وأعمال النهب، التي ثبت أن قسماً كبيراً منها خطّط له النظام وينفّذه أزلامه، لكنّ القسم الآخر يحصل بأيدي ضحايا النظام، وبينهم 3 ملايين ممّن يفترشون الأرض ويلتحفون السماء. ثلاثة أجيال من المشردين بسبب سياسات النهب المنظم التي مارسها نظام مبارك مفقراً غالبية الشعب ومركّزاً الثروة بأيدي قلة قليلة من الحاشية. فضلاً طبعاً عن سكان العشوائيات، الذين يعيشون تحت خط الفقر... بكثير.
هي حال من انعدام الأمن لم يتمكن الجيش من السيطرة عليها بعد، بعدما اختفت قوات الأمن من الشوارع. ردّ عليها المجتمع المدني بـ«الأمن الذاتي»، عبر لجان حماية الأحياء. وهي حال من التخبط السياسي، بفعل ترهل الأطر التقليدية، من أحزاب ونقابات عاث فيها النظام تدميراً، وغياب القادة الذين يمكنهم الإمساك بزمام الأمور، بفعل عشرات السنين من القمع، امتلأت في خلالها المعتقلات وعجّت بهم المنافي، حتى بات بعض البيروقراطيين، الغربيّي الهوى، من أمثال محمد البرادعي أو أحمد زويل يتصدرون لائحة الطامحين إلى كرسي الرئاسة. حال يُفترض أن تتحسن اليوم مع إعادة انتشار قوات الأمن لحفظ الأمن من دون أن يكون لديها حق التعاطي مع المتظاهرين.
دبلوماسي عربي مقيم في القاهرة يقول لـ«الأخبار» إن «مصر دخلت مرحلة من نوع لم يعرفه العالم. البلاد الآن من دون سلطة. الارتباك واضح عند جميع الأجهزة الأمنية والمدنية والعسكرية المعنية بأمن المواطنين. حتى سيارات الإطفاء توقفت عن العمل». ويضيف إنّ «السؤال الأبرز عند الجمهور هو: كيف سُحب مليون ونصف مليون عنصر من الشرطة والأمن المركزي وحرس الداخلية من الشوارع فجأةً»، مشيراً إلى أنه «لا أحد يشكّ في وجود ارتباك، لكن الجميع يشكّ في أن رجالات النظام يحاولون إخافة الناس وتخييرهم بين النظام الحالي والفوضى».
وعن الاتصالات القائمة، يقول المصدر الدبلوماسي إنّ ما تشهده مصر «تاريخي ولا يبدو أن هناك إمكاناً للعودة الى الوراء». ويضيف «صحيح أننا جميعاً فوجئنا، لكن كان يقال لنا خلال العقد الأخير إن مصر بطيئة في التحرك، لكن عندما تثور تكون في موقع خاص، وهذا ما يحصل». ولفت الى «أن أسلوب المسكّنات الذي يلجأ اليه النظام قد لا يجدي نفعاً». وتحدث عن سيناريو واحد الآن عند النظام يقول إن «البرلمان سوف يبطل نيابة أكثر من مئة نائب، وإن الحكومة سوف تضم أسماءً ترضي الناس، لكن الواقع أن الناس لا يريدون أقل من رحيل مبارك وفريقه السياسي والأمني».
وكان مبارك، في محاولة منه لامتصاص غضب الشارع، قد عين اللواء أحمد شفيق، الذي يحظى باحترام رجالات النظام والمعارضة، رئيساً للحكومة، كما لبى مطلباً لطالما نادت به المعارضة وواشنطن، ألا وهو تعيين نائب للرئيس، ليس سوى مدير الاستخبارات عمر سليمان، الذي يحظى بإعجاب المصريين، لا باحترامهم، وبرضى أميركي إسرائيلي منقطع النظير، كذلك عمد جنرالاته، في محاولة منهم لتفريق المتظاهرين، وخاصةً في ميدان التحرير، حيث تجمّعوا رغم حظر التجوال، إلى الدفع بطائرات من طراز «اف 16» وهليكوبتر للتحليق فوقهم من على علو منخفض، لكن لا التعيينات السياسية حظيت بالرضى، ولا أساليب التخويف نفعت، وكذلك كان تأثير إعلان استقالة أمين التنظيم في الحزب الوطني الحاكم أحمد عز وتحميله مسؤولية كل ما جرى ويجري. وتفيد المعلومات أن السفارة المصرية في بيروت حجزت عدداً من الغرف في الفنادق اللبنانية «لكونها تتوقع وصول شخصيات مصرية إلى العاصمة اللبنانية هرباً من القاهرة».
حملات التضامن مع مبارك كانت لافتة عربياً. طبعاً على مستوى القادة الذين يخشون على عروشهم. من هنا يمكن فهم مواقف كل من الرئيس الفلسطيني محمود عباس وأمير الكويت الشيخ صباح الأحمد الصباح والزعيم الليبي معمر القذافي. وبقي ملك السعودية عبد الله الأكثر شراسةً في الدفاع عن نظام مبارك. قالها بوضوح «إن مصر العروبة والإسلام، لا يتحمل الإنسان العربي والمسلم أن يعبث بأمنها واستقرارها بعض المندسّين باسم حرية التعبير بين جماهير مصر الشقيقة، وأن يستغلّوا الوضع لنفث أحقادهم تخريباً وترويعاً وحرقاً ونهباً، ويحاولوا إشعال الفتنة الخبيثة».
في المقابل، كانت المواقف الغربية شبه متناسقة، وتعطي الأولوية لتحقيق مطالب الشعب، وهو ما كان موقف كلّ من زعماء فرنسا وألمانيا وبريطانيا وإيطاليا.
أمّا فخامة عمرو موسى، الذي أبعده مبارك ذات يوم من وزارة الخارجية إلى الأمانة العامة لجامعة الدول العربية للحؤول دون منافسته على منصب رئاسة الجمهورية (على ما قيل حينها)، فقد خرج عن صمته أخيراً، وطالب بـ«نظام تعددي» من دون أن يقطع مع مبارك «الذي ينصت بعناية إلى صوت الإصلاح»، وإن «كان (مبارك) ليس من النوع» الذي يتنحّى طوعاً، نفى أن يكون مرشحاً لرئاسة الجمهورية لكون «الدستور لا يسمح لي» بذلك، من دون أن يخفي رغبته في المنصب. الأنكى أنه يصدّق نفسه.



«بقينا وحدنا»

يديعوت ـ ايتمار ايخنر
الثورة في مصر تؤكد الضائقة الاستراتيجية لإسرائيل في الشرق الأوسط: وحدها، دون حلفاء. بدأ هذا قبل نحو سنتين، بعد انهيار الحلف الاستراتيجي مع تركيا في أعقاب قضية مرمرة. منذ أن صعد نتنياهو الى الحكم، عانق مبارك ونجح في أن يخلق معه حلفاً حول الخوف المشترك من التسلل الإيراني الى المنطقة. نتنياهو زار مصر عدة مرات وأخذ معه الخبير الرقم واحداً في القيادة الإسرائيلية للشؤون المصرية ـــــ فؤاد بن اليعيزر. ونجح نتنياهو في أن يقنع مبارك بأن وجهته نحو السلام. مبارك، حتى لو لم يوفر الانتقاد عن نتنياهو، فقد أعطاه فرصة. أفول مبارك يترك نتنياهو الآن دون حليف عربي. إذا ما حل عمر سليمان محل مبارك، فسيكون هذا، دون ريب، خيراً للعلاقات مع إسرائيل، لكن في الزمن القريب القادم ستكون مصر مشغولة البال في شؤونها، ولن تكون مشاركة في المسيرة السلمية.
من الشرق ـــــ بقيت إسرائيل مع نظام الملك عبد الله الشكّاك، الذي يتهم إسرائيل بالجمود السياسي، يحذّر من الكارثة ويرفض اللقاء مع نتنياهو.
من الشمال ـــــ في أعقاب سقوط حكومة سعد الحريري وصعود حكومة الدمى بسيطرة حزب الله، فإن المعسكر المعتدل في الشرق الأوسط فقد محوراً مهمّاً.
في المناطق ــــــ أبو مازن يدير حرباً شاملة على «الجزيرة» التي كشفت عن تنازلاته البعيدة المدى في المفاوضات، وعرضته بمثابة خائن لشعبه. الاضطرابات في مصر تطرح تخوفاً من أن يتلقى الشعب الفلسطيني شهية الخروج الى الشارع وإسقاط نظامه الفاسد. في هذا الوضع قد يكون لنتنياهو مخرج واحد أو اثنان: أن يجلس فوراً مع أبو مازن ويعقد صفقة تكون مشابهة جداً لاقتراح أولمرت، أو يتخلى عن الفلسطينيين ويعرض على دمشق صفقة حقيقية: نزول من الجولان في مقابل انقطاع عن إيران وعن حزب الله.