أحد الطلاب العائدين رفع شارة النصر حين وصل. طبعاً، فهو كان في ساحة حرب وقد خرج منها منتصراً. بالنسبة إلى أهله الذين انتظروا الرحلة 305 في مطار بيروت، عودته انتصار لهم على القلق. انتظروه في الواحدة ظهراً وعاد في السادسة مساءً. فاجأهم مرة جديدة. فحين عانقهم، ولاحظوا وجهه متّشحاً بالتعب، صارحهم بأنه كان بين المتظاهرين. لم يستطع أن يبقى متفرجاً. مازحته والدته بضربة خفيفة على رأسه. المهم أنه وصل الآن. ومثله، كانت أحوال فرح قبيسي، الطالبة اللبنانية التي تدرس في القاهرة. فرح لم تخرج من الشوارع. تعيد ترتيب كوفيّتها الفلسطينية، مؤكدة أنها لم تعد إلا لأن أهلها أصرّوا على ذلك. وأطلقت ما في صدرها من فرح: لم يتوقع أحد، لا هي، ولا رفاقها، أن تتحول القاهرة 2011 في لحظة إلى باريس 1789. ذهلت الطالبة اللبنانية بقدرة الشعب المصري على تنظيم نفسه. لاقاها في ذلك مهندس لبناني، عاد لتوّه من منطقة المعادي. بدا عدد العائدين من المعادي لافتاً. تحمّس المهندس أمام الكاميرات. سرد سلسلة من الشعارات التي يرددها المصريون في القاهرة، معلناً نريد «ديموقراطية حرية عدالة» (!). وعندما انتبه الى أنه أصبح في مطار بيروت، أخبر زوجته أنه كان يأكل جيداً، وأن شيئاً لم ينقطع في الحيّ الذي يقطنه. حدث شيء واحد على بعد من منزله. نهب «البلطجيّة» مجمعاً تجارياً ضخماً، يفوق حجمه حجم مطار بيروت، في غضون ساعتين. يؤكد الرجل أن المبنى استحال هيكلاً عظمياً. لكنه استدرك سريعاً: «هؤلاء البلطجيّة الذين أخرجهم النظام». تلاقيه في ذلك، المواطنة اللبنانية هيام مرسي. مرت الساعات ببطء على مرسي، في انتظار شقيقتها وابنتها القاطنتين في أحد أحياء القاهرة الرئيسية. منذ منتصف النهار وهي تنتظر، وفي نهايته سيطر التعب على وجهها. تنفي حدوث النهب والسرقة. «شابّو با» للمصريين، أخبرتها شقيقتها. ووصلت الشقيقة. السيدة التعبة، من انتظار الساعات المرهقة بين المتجمّعين كالنمل في مطار القاهرة. نقلت ما شاهدته. الحقائب على الأرض. الطرقات مقطوعة. حظر التجول مسخرة. ورغم كل شيء شكرت المصريين. لم يكن هذا موقفاً سياسياً، بل لأن «اللجان الشعبية حقيقية». حرس المتظاهرون منزلها. لم تشعر بأنها غريبة عنهم. وعلى نقيض منها، أبدى أنطوني استياءه، الشاب السوري، المقيم في منطقة «6 أوكتوبر» منذ ست سنوات، وصف الوضع بالجحيم. لا اتصالات. لا خبز. وعلى ذمّته، هناك طريقان سالكان باتجاه المطار، واحد يحرسه الجيش المصري، وآخر يهاجمه «البلطجيّة» بين الحين والآخر. ثم يردف، أنه نفسه، شارك في إنقاذ إحدى الفتيات، التي تعرضت للنشل، ومحاولة الاعتداء من ثلاثة شبان، سُلّموا إلى اللجان الشعبية، ثم إلى الجيش. قال أنطوني وتابع سيره بحثاً عن أقرب هاتف. وبرز من بين المنتظرين شاب عشريني فارع الطول. فجأة تجمهرت حوله الكاميرات. كأنه هو من استدعاها. حدثهم عن علي ياسين. الشاب الذي وصل إلى القاهرة يوم السبت، على أن ينتقل منها بعد ساعات قليلة إلى أوغندا حيث يعمل. لكن، تبخّر علي. لم يسمع عنه أهله شيئاً حتى يوم الأحد، حتى أخبرهم بأنه عالق في أحد الفنادق داخل مطار القاهرة. وعاد الاتصال لينقطع. أخبره الدبلوماسيون اللبنانيون أن شقيقه ليس من ضمن العائدين اليوم، إذ نادوا عليه مراراً في مطار القاهرة عبر مكبرات الصوت، لكنهم لم يتلقّوا أي جواب. المنتظرون الآخرون، عانوا من شائعات إلغاء الرحلة. وتبعاً لما رواه عائد آخر، فإن 3 موظفين من الشرطة، ومثلهم من الجمارك المصرية، تولّوا تخليص معاملات آلاف الراغبين في السفر. إحدى السيدات التي تنتظر ابنها العائد من منطقة «أبو اللوى»، كادت أن تنهار، رغم طمأنة الجميع لها بأن الأمور على ما يرام. وفعلاً، عاد ابنها. عانقته وبكت شقيقته الشقراء الصغيرة.
العودُ ليس دائماً أحمد. أجمع المسافرون على أنهم عائدون إلى القاهرة في أسرع وقت. كل شيء أفضل من لبنان، قال بعضهم ممازحاً. طغى شغفهم على قلقهم، على عكس أهاليهم المنتظرين، الذين ذابوا أمام لوحة الوصول. ووفقاً لما أكده قائد الرحلة 305 في حديث مع «الأخبار»، أن الطائرة تأخرت بسبب وجود حقائب مشبوهة بين أغراض المسافرين. ليست مشبوهة تماماً، لكنه لم يجد مصطلحاً آخر. فقد كانت أغراضاً بلا صاحب، إذ إن عدد المسافرين (260 راكباً) لم يطابق عدد الحقائب المسجلة في سجلات طيران الشرق الأوسط الخاصة بالرحلة. لاحقاً، تبيّن أنها تعود إلى سيدة، أرسلتها، على أن توافي الطائرة قبل إقلاعها. وصلت الحقائب وبقيت صاحبتها في القاهرة. بالنسبة إلى السفارة اللبنانية في القاهرة، لم يسطع الضوء الأحمر بعد: لا خطر حقيقياً على اللبنانيين. وقد أكد مصدر واسع الاطلاع في وزارة الخارجية اللبنانية أن الناس يتصلون بالسفارة فعلاً، وأن الأوضاع تحت السيطرة: «معظمهم لا يريدون أن يعودوا إلى لبنان». ثمة مشاكل تقنية تتعلق بزحمة المطار، حاولت الوزارة تفاديها، بالتنسيق مع شركة طيران الشرق الأوسط، التي أوفدت طائرتين إضافيتين خلال اليومين الماضيين، عادت إحداها ناقصة 70 راكباً بسبب تعذر الوصول إلى المطار، من مناطق بعيدة كالغرداقة والواحات. ولفت المصدر ذاته الى أن ثمة مواطنين يعانون من ضائقة مالية، بسبب إغلاق المصارف، الأمر الذي تحاول السفارة اللبنانية تفاديه بالتنسيق مع شخصيات نافذة في الجالية اللبنانية في مصر، وقد أوفدت القنصلين ميلاد رعد وبلال قبلان إلى مطار القاهرة للتنسيق المباشر مع اللبنانيين.
إذاً، الثورة تنتظر انضمام العرب إليها ولا تستعديهم. على الأقل، هذا ما تؤكده شهادات العائدين.