القاهرة ــ لم يكتفِ حسني مبارك بدماء الأسبوع الأول، فقرر أن يترك الدم والعنف في الشوارع، انتقاماً من شباب ثورة هزت عرشه الهش. لم يبق من نظام مبارك سوى أنياب، بينما تآكلت شرعيته. الأنياب في لحظات النهاية تحفر في جسد الدولة أنهار دم، وذاكرة ترويع لن تُنسى.حرب مبارك من أجل الاستمرار انتقلت إلى مرحلة الجنون الكامل… لا يوقفه شيء ولو كان حرق مصر، أو ارتكاب جرائم لن تنساها ذاكرة الشعب المصري ضد المتظاهرين في ميدان التحرير.
ميليشيات مبارك الحقيقية ظهرت أمس: بلطجية ومرتزقة وعمال مصانع ورجال الأعمال التابعين لقصره وحاشيته، إضافة إلى فلول جهاز أمن الدولة، بعد هزيمته في «جمعة الغضب».
الميليشيات أدارت حرباً يعود زمنها إلى القرون الوسطى عندما هبطت طلائعها في ميدان التحرير على الجياد والجمال، ويحمل ركابها سيوفاً وأسلحة بيضاء.
الفرق الأخرى أحدث، سلاحها قنابل مولوتوف يدوية وقنابل خانقة لم يكن يملكها إلا أجهزة الأمن الرسمية.
بيان الرئيس أول من أمس كان ساعة الصفر وكلمة السر التي تحركت بعدها الميليشيات تحت لافتة أنصار مبارك. الرئيس في بيانه روى ما يحدث منذ ٨ أيام من وجهة نظر سلطوية، استحدثت نعومة جديدة حينما أعلنت احترامها لطلبات الشباب، وعادت إلى توصيفاتها القديمة حينما تحدث الرئيس عن «عناصر مندسة من قوى سياسية تريد فرض أجندتها الخاصة».
الرئيس بسلطويته وفي روايته لأحداث ثورة الغضب، انتقل إلى حالة أخرى عندما قدم تنازلاته وأكبرها: «لم أكن أنوي الترشّح لولاية جديدة». صوته المشروخ أعطى لصورة الأب المهزوم شحنة عاطفية أحدثت تأثيراً هائلاً في جمهور مشاهدي المحطات الأرضية والفضائية.
المحطات ملك للحكومة أو لرجال أعمال يمكن القول إنهم ليسوا حلفاء نظام مبارك، ولكنهم صنيعة شبه كاملة لمنح النظام وعطاياه. هم جيش مالي يدافع عن الرئيس في معاركه، ويشارك في صنع حرب إعلامية ونفسية تحرض الشعب ضد المتظاهرين.
اللعبة العاطفية السخيفة عن الأب، الذي تنازل «من أجل استقرار البلد»، تحولت إلى غطاء معنوي لهجوم ميليشيات مبارك، عندما انتقل الخطاب الإعلامي إلى الحديث عن «مؤامرة» أجنبية تحرك التظاهرات ضد مصر، قد تكون مؤامرة أميركية ـــــ إسرائيلية ـــــ قطرية، كما وصفت في أحاديث إعلاميي النظام، ووضعت لها تشكيلة بهارات من مخازن أجهزة البروباغندا القديمة.
الحرب الإعلامية تداولت حكايات عن شباب تدربوا في الولايات المتحدة وإسرائيل على التهييج، وظهرت على الشاشة فتاة قيل إنها زعيمة التظاهرات، اعترفت بحصولها على ١٠٠٠ دولار أميركي كي تشحن تظاهرات، وهي تعتذر لمصر عن «خطيئتها».
أسلوب مستهلك، لكنه لا يزال فاعلاً في ظل غياب خطاب هيمنة من النظام على جمهوره، ويبقي فقط ألعاب العواطف والخطابات المذعورة من مؤامرة خارجية.
الجيش الإعلامي قدم «الأرضية» العاطفية، ولم ينقص حركة الميليشيات إلا إشارة من خلال بيان مبارك الذي لعب على القواعد نفسها، وانتشرت بعد لحظات قليلة من انتهاء البيان تظاهرات البلطجية بالأسلحة البيضاء، تهتف باسم مبارك وتبشر بأنه «موش حا يمشي».
سيناريو تحريك التظاهرات المضادة ظل هاجساً مخيفاً، لأنه سيحول التظاهرات من ثورة «شعب يريد إسقاط النظام» إلى حرب بين مؤيدي مبارك ومعارضيه.
السيناريو لم يكتمل إلا بعد تراكم الوزن الإعلامي الذي أثار الخوف عند شرائح اجتماعية من الاستمرار في شلل الحياة منذ إعلان حظر التجول، وأثار أيضاً التعاطف مع النظام بمنطق أن «إعلان عدم الترشيح» هو مكسب من نظام لا يتراجع، و«ليس في الإمكان أبدع مما كان».
تحييد الجمهور الواسع، أو إثارة جدل اللاإجماع على التظاهرات، مهّد لهجوم ميليشيات مبارك.
الميليشيات تتكون من: 1 ـــــ عناصر سابقة من جهاز أمن الدولة. 2 ـــــ بلطجية شوارع ومسجلين كأشخاص خطيرين يسيطر عليهم ضباط المباحث. 3 ـــــ عمال شركات رجال الأعمال (التابعين لمبارك) وشركات البترول (قطاع يحكمه سامح فهمي وزير البترول). 4 ـــــ مرتزقة مأجورين من ضواحي فقيرة في القاهرة والمحافظات (حصل كل منهم على 200 جنيه). 5 ـــــ عناصر من الشرطة السرية.
جهاز أمن الدولة، اليد الطولى للنظام، تضخّمت سيطرته إلى درجة أنه أصبح الطريق إلى المناصب الكبيرة. كذلك فإنه لا يمكن التفكير في فتح متجر أو صحيفة أو حزب سياسي إلا إذا وافق أمن الدولة. أمن الدولة أداة الدولة البوليسية. اليد الطولى التي تدير مصر من الباطن. ضباطه هم الحكام الحقيقيون لكل مؤسسات مصر: من الجامعة إلى مجلس الشعب، مروراً بكل التفاصيل. تقرير أمن الدولة هو بطاقة إلى جنة الحياة السعيدة.
والعلاقة مع أمن الدولة هي مفتاح الوجود الشرعي. تغيّر النظام في مصر من الملكية إلى الجمهورية، ولم ينتهِ الدور السياسي لمباحث أمن الدولة. تتّسع صلاحياته على نحو خرافي، ليس للحماية، بل للسيطرة والتحكّم وضمان الولاء الكامل.
مخبرو أمن الدولة أصبحوا من كل فئات المجتمع. ومندوبو الجهاز يتنقلون وفق خط سير يومي من مناطق التوتر في الشوارع إلى كل غرفة مغلقة لها تأثير على القرارات في مصر. سلطة تتضخم في ظل حكم قانون الطوارئ، الذي جعل الاستثنائي طبيعياً طيلة 27 سنة. من الاستثناء وُلد نفوذ الجهاز المرعب في مصر. لم يعد جهاز حماية سياسية، بل جهاز الإدارة السياسية. أصبح كل المواطنين متهمين حتى يثبت العكس، وارتفعت أعباء الجهاز إلى درجة أصبح يحتاج إلى خبراء في كل المجالات، من الاختراعات العلمية إلى جمعيات مساعدة الفقراء. لم يعد المهم ملاحقة الجماعات غير الشرعية، فأمن الدولة يدير كل أنشطة مصر، ولم يعد خافياً أن نظام حسني مبارك عاش بالبوليس واستمر بالبوليس.
قانون الطوارئ رسمياً هو القانون الرقم ١٦٢ لسنة ١٩٥٨. والمفارقة أنه القانون الذي يحكم مصر من ليلة الهزيمة في ٥ حزيران ١٩٦٧. أعلنه الرئيس جمال عبد الناصر وتبعه أنور السادات الذي ألغاه فقط في أيار ١٩٨٠، لكنه أعلن من جديد يوم ٦ تشرين الأول ١٩٨١ بعد اغتياله، ومن يومها ومصر تحت قانون الطوارئ.
علاقة ترابط قوية بين هزائم النظام العسكرية والسياسية، وإعلان حال الطوارئ. النظام السياسي في حال توجّس أمني دائم مصدره الأول العدو الخارجي: إسرائيل. وأعداء الخارج المتربصون بنظام في مرحلة صعوده (الملك فاروق في عز رغبته ليصبح خليفة للمسلمين، وعبد الناصر زعيم الأمة العربية، ثم السادات المتحوّل من الحرب إلى السلام بقفزات حرقت مراحل تاريخية كاملة).
لكن مبارك بنى شرعية الطوارئ على أعداء من الداخل: الجماعات الإسلامية المسلحة التي اغتالت رئيساً ودبّرت انقلاباً عسكرياً للاستيلاء على الحكم بعد لحظات من الاغتيال. هذه شرعية مستمرة وخالدة. نجحت أجهرة الأمن في القضاء على الجماعات الإسلامية ليخرج جهاز الأمن منتصراً بنشوة ربما لم ترجعه إلى حجمه السابق. لكن الانتصار جعله جهاز الحكم. يدير السياسة بمنطق إلغاء السياسة، ويتخذ لنفسه ظهيراً سياسياً: هو الرئيس الذي يعظم من أمنه الشخصي، ومشروعه السياسي الوحيد هو الاستمرار والبقاء. وهناك ظهير احتياطي: الحزب الوطني الذي من مصلحته إلغاء السياسة. فهو نادٍ لتجمع المصالح تحوّل إلى أداة للسيطرة. والسيطرة، في مفهوم يحكم بالأمن والطوارئ، تطرّف ولم يعد يعني الحصول على الغالبية، بل الاستحواذ على كل المقاعد وترك نسبة ضئيلة جداً لديكور سياسي في مواجهة العالم. لم تعد المنافسة مقبولة للنظام. من هنا حالة الطوارئ مهمة، فهي تمنح الرئيس حق إلغاء الحياة السياسية تماماً. وموافقته على إتاحتها بطريقة ما، هي منحة يستطيع التراجع عنها في أي وقت. والأمن لن يعمل بكفاءة يريدها النظام، إلا مع قانون استثنائي يلغي أو يعطل القوانين. الأمن لا القانون هو المهم. والطوارئ هي دستور نظام تكيّف على الحياة بهذه الطريقة المعتمدة على استبعاد المختلفين سياسياً. الولاء الكامل هو الشرط غير المعلن.
المواطن هو العدو الذي يجب السيطرة على نزواته في الخروج عن الطاعة.
السيطرة عليه بإقناعه بأن الأمن هو الحل والطوارئ هي الاستقرار، وأن المطالبين بالديموقراطية هم خارجون عن القانون. حكم الطوارئ لم يكن مجرد أداة، بل عمق نظام لا يمكن أن يحكم إلا في ظل إلغاء السياسة وإبقاء الذراع الطويلة تلعب من خلف الشقوق.