تفادت الانتفاضة الشعبية المصرية، حتى الآن، بحكمتها وبالعبقرية الشعبية الخلاقة التي تستبطنها الكثير من الدروس الثمينة، عدداً من الكمائن التي نُصِبَت لها بمهارة. منها مثلاً كمينُ دَقِّ إسفين بين الإسلاميين والعلمانيين، وآخر بين المسلمين والمسيحيين الأقباط. أما كمين «أخوة الجيش والشعب» فقد تفادته الانتفاضة، لكن بثمن باهظ على الصعيد السياسي والاستراتيجي.
فقد قرر مبارك، قبل رحيله، أنْ يزج بوحدات منتقاة من الحرس الجمهوري، وقدَّمها للشارع الثائر بصفتها الجيش المصري لتحقيق أهداف عدّة من أبرزها: أنْ يحيط نفسه وأسرته وأقطاب نظامه بسياج أمني مقبول شعبياً ومتمكن عسكرياً، تباهى به في لقائه الشهير مع مراسلة شبكة «إيه بي سي» الأميركية. وثانياً، كي تحل هذه الوحدات محل قوات الداخلية والأمن المركزي التي انهارت في الصدام الدموي الأعنف مع الجماهير المنتفضة يوم «جمعة الغضب». وثالثاً، كي يتمكن مبارك من كسب الوقت واستغلال الاحترام الشعبي العاطفي للمؤسسة العسكرية التي أنجبت ثورة 23 يوليو/ تموز 1952، ووقفت ببسالة بوجه المشروع الصهيوني الاستئصالي، طوال عهد عبد الناصر.
من الطبيعي أن يكون النظام ككل، قد ربح سياسياً وأمنياً ومجتمعياً من هذا الكمين. غير أنَّ الانتفاضة تفادته. لكنّ ما أثَّر سلباً على مجريات الأحداث، وترك للنظام مجالاً واسعاً نسبياً للمناورة، قبل تنحي الرئيس، هو تردد القيادات الميدانية للانتفاضة في بدء الزحف الجماهيري السلمي نحو القصر الرئاسي في القاهرة، بعد انهيار قوات الأمن المركزي مباشرة.
ستكون لهذا التردد تأثيراته السلبية على المدى البعيد، لكنّها قد تكون قابلةً للتصحيح والتفادي لاحقاً. سيذكّر ما حدث الكثيرين بتردد ثوار كومونة باريس في آذار 1871، وتأخرهم في الزحف نحو قصر فرساي. تردد رثاه ماركس لاحقاً، وقال: «لقد انتكست ثورة عمال كومونة باريس بسبب شهامتهم وترددهم في الهجوم على قصر فرساي والمصارف الحكومية» (من بيانه المعروف «إنّهم يقتحمون السماء بقبضات عارية»). فكان أنْ دفع العمال الباريسيون الثوار ثمناً باهظاً، تمثل بدمار الثورة وثلاثة آلاف قتيل وآلاف الجرحى.
هذه مجرد مماثَلة ومشابَهة بين الحادثتين الثوريتين، مع الفارق النوعي والتاريخي الهائل بينهما طبعاً. ومع ذلك، تفادت الانتفاضة المصرية الباسلة حتى الآن الصدام مع قوات الحرس الجمهوري.
كمين آخر أشد خطورة، يمثله بروز رئيس الاستخبارات العامة السابق، ونائب الرئيس حالياً، عمر سليمان. قُدِّمَ هذا الرجلُ، من نظام مبارك ضمن لعبة تغيير الوجوه والأقنعة لإدارة العملية الصراعية سياسياً وأمنياً، فيما اكتفى رئيس الوزراء «الجديد»، وهو جنرال أيضاً، لكنّه أقل تشنجاً وعدوانية من الجنرال سليمان، أحمد شفيق، بدور المهدئ وممتص الصدمات، وكان على درجة كبيرة من الحذق والمهارة. فقد قال شفيق لمذيع «بي بي سي» صباح الخميس 3/ 2/2011، رداً على سؤال عن هجوم أنصار مبارك وبلطجية نظامه بالخيول والجمال على المتظاهرين في ميدان التحرير: «أقسم لك يا سيدي، بالله العظيم، وبشرفي، إنّني لا أعلم كيف وصل هؤلاء إلى ميدان التحرير ولا مَن خطط لهم». ثم، لكي يعطي صدقية لكلامه، روى رئيس الوزراء «حدوتة» عن أنَّ زوجته وابنته نزلتا ذلك الصباح إلى الشوارع، مدفوعتين بالفضول وحب الاطلاع، ليس إلا. فهل يمكن اتهامهما بالعمالة لوزارة الداخلية والحزب الحاكم، تساءل شفيق وبراءة الأطفال في عينيه؟
يعكس كلام رئيس وزراء الأزمة، هشاشة النظام الحاكم وحراجة الزاوية التي حشره الشعب المنتفض فيها. ويعكس أيضاً نفاد الوسائل والبدائل في جعبة النظام، ما بشر بأنّ نَفَسَهُ لن يكون أطول من نَفَسِ الجماهير الثائرة، لكنّه يصمّ أذنيه عن سماع النداءات والمناشدات برحيله (النظام) ويدمر الاقتصاد المصري يومياً. فهو حاول أن يستخدم في الوقت ذاته هذا التدمير الذي يسببه هو كعامل تخويف وتهديد للجماهير إنْ هي لم تعد إلى البيوت بانتظام وهدوء كقطيع أغنام. أما تصريحات نائب الرئيس «الجديد» عمر سليمان، في اليوم ذاته للتلفزيون الحكومي، فقد مزجت لغتين، فجاءت مزيجاً فظاً ومُستفزاً من التهديدات والطمأنات والإطراء لشباب الانتفاضة وللتشكيك بهم وبنياتهم وعلاقاتهم في الآن ذاته. وقد حرص الرجل على إيضاح تفاصيل دوره المريب والخطير لإخراج النظام المحتضر من مأزقه دون علمه، حين تكلم على خريطة طريق. سقف هذه الخريطة 200 يوم، لإحداث ما سماه الإصلاح السياسي المنشود، لكن من دون رحيل مبارك ومن دون حلِّ البرلمان المزوَّر بغرفتيه، وببقاء الأجهزة الأمنية ومؤسسة الجيش تحت سيطرته، ومن دون المساس بالحزب الحاكم، وبوضع اشتراطات محبوكة لأي تغيير دستوري ممكن. خطة عمر سليمان مكشوفة تماماً، وهي تفسر لنا أسباب حماسة الإدارة الأميركية، ووراءها سرب الحكومات الغربية، لرحيل مبارك الفوري بعد أن كانت قد طلبت منه البقاء في موقعه، حين أبلغها بأنّه ينوي الرحيل عن القاهرة بعد جمعة الغضب بيوم واحد. السبب في هذا الانقلاب يكمن في خوف أميركا والغرب عموماً من تجذّر الثورة المصرية وصعود قوى ذات أهداف مدمرة لمصالحها ولمصالح الدولة الصهيونية. لذلك انقلب موقفها من التحفظ على الانتفاضة المصرية في البدء، إلى الإشادة اللفظية بها، وأخيراً المطالبة بالرحيل الفوري للديكتاتور. إنَّ رئيس جهاز الاستخبارات العامة سابقاً والمسؤول المكلَّف ملف العلاقات مع إسرائيل ونائب الرئيس حالياً عمر سليمان، هو البديل الأميركي والإسرائيلي لمبارك. وكلّ ما فعلته إدارة أوباما كان محاولة محوكة بحذقٍ استخباري عالٍ لزحزحة مبارك عن عناده وتسليم السلطة لسليمان. بذلك يتمكن سليمان من إجهاض الانتفاضة الشعبية وتصفيتها تدريجاً وبهدوء، ليصبح في استطاعته، لاحقاً، حشد قوى النظام القديم ضمن شروط اللعبة الجديدة وينفذ برنامجه الخاص بثورة مضادة فعلية وبتأييد غربي، لن يتأخر إصداره وقتها. وجرى تنفيذ الصفحات العملانية لهذه الاستراتيجية، تحت شعارات الدفاع عن حق الشعب المصري في تقرير مصيره وصياغة مستقبله السياسي، لكن في أبشع صورة للرياء والنفاق السياسي الذي تتقنه الإدارات الأميركية والأوروبية. أما الجائزة الأميركية الكبرى التي يضمنها أوباما وحليفه عمر سليمان للجماهير المصرية فهي: لن نطلق الرصاص عليكم!
تسود الآن وجهات نظر في الشارع المصري المنتفض، تخلط بين العداء للأحزاب السياسية التقليدية وبين الأحزاب ككلّ، تبلغ أحياناً درجة التخوين والشطب السياسي. لا يمكن ديموقراطياً معاداة الأحزاب السياسية ومناوأتها لأنّها أحزاب سياسية، فهذا شعار ديكتاتوري ورجعي تاريخياً، يذكرنا بشعارات الأنظمة الشمولية الدينية وغير الدينية، ومن أشهرها شعار «مَنْ تحزب خان». شعار لا يزال يرفعه الديكتاتور الليبي القذافي، ناسياً أو متناسياً أنّه يقود حزباً أوحداً حاكماً اسمه «حركة اللجان الثورية»، منذ أربعة عقود. لا بد إذاً من التفريق بين هذا الشعار الرجعي، الذي يهدف إلى إبقاء الانتفاضة دون رأس أو قيادة سياسية فعلية، وبين سياسات تقول بوجوب التصدي للأحزاب المصرية التقليدية والمعزولة جماهيرياً، التي نشأت وترعرعت في حضن نظام الأوليغارشية بوصفه تحالفاً استبدادياً حاكماً لطغمتي العسكر والمال.
هذه الأحزاب، وفي مقدمتها حزب التجمع اليساري والوفد الليبرالي وجماعة الإخوان المسلمين، مع تسجيل الإعجاب بأداء شباب هذه الأخيرة وكوادرها بعد 25 يناير/ كانون الثاني، والتحفظات على مناورات ومساومات دهاقنتها وأقطابها الكبار، انتقلت خلال أيام معدودة من رفض الانتفاضة إلى التحفظ عليها، ثم وصلت إلى التردد في المشاركة فيها، وأخيراً إلى المشاركة الفعالة فيها، ومحاولة ركوب موجة الجماهير المنتفضة والمزايَدة على شعاراتها بهدف مصادرة حصادها. يمكن حلُّ هذا المأزق أو التعقيد المتعلق بالموقف من الأحزاب السياسية التقليدية، عبر عمليتين متلازمتين. فأولاً، لا ينبغي رفض نشاط هذه الأحزاب وحركتها وحقها الديموقراطي في العمل. ثانياً، يجب التصدي لمحاولاتها في قطف ثمار الانتفاضة الشعبية وركوب أمواجها وتقديم نفسها على أنّها ممثلها الفعلي والشرعي. وللإنصاف، يمكننا استثناء بعض القوى السياسية، كحركة «كفاية» والتجمع الذي يقوده البرادعي، من هذه الأحكام والاستنتاجات بفعل تماهيها مع نبض الانتفاضة الشعبية ومواقفها الشجاعة الرافضة لنظام مبارك قبلها بزمن طويل. غير أنه لا أحد يسعه أنْ يقدم أية ضمانات بأنَّ هذه الأحزاب ستكون مستقبلاً أفضل من الأحزاب التقليدية.
* كاتب عراقي