القاهرة ــ أعادت الأحداث المصرية الأخيرة إلى الساحة السياسية والإعلامية مصطلحات حسب الجميع أنها ذهبت أدراج الرياح، كالكلام على الثورة وإرادة الشعب وغيرهما من الشعارات التي تعود إلى زمن الحرب الباردة، ولم تكن قد وجدت لنفسها حيزاً في عالم العولمة وهيمنة الرأسمالية الجديدة، فيما يراها كثيرون مجرد مصطلحات عاطفية وساذجة.إلا أن الحاضر في ميدان التحرير يستشعر بأن شيئاً ما في مصر تغير، فعلياً، على نحو جذري. لعل أكثر المشاهد تعبيراً عن ذلك، التجمعات الليلية حول أعمدة الإنارة في الميدان، وهي المصدر شبه الوحيد للكهرباء بالنسبة إلى المعتصمين. تجمع الثوار حول أعمدة الإنارة هذه ليس بحثاً عن النور وسط الظلام فقط، بل صار لهذه الأعمدة وظائف أخرى في خدمة الهاتف المحمول. الأخير تحول إلى السلاح الرئيسي في أيدي المعتصمين، إذ تعتمد «الثورة» اعتماداً حيوياً على الاتصال المستمر بوسائل الإعلام العربية والدولية، لمواجهة حملات التضليل المعلوماتي التي تشنها وسائل الإعلام الرسمية على المواطنين خارج الميدان. وبما أن الهواتف النقالة بحاجة إلى شحن دوري لبطارياتها، فإن توفير مصادر للكهرباء في الميدان أصبح هاجس المعتصمين، وخصوصاً أن معظم المباني والمحال والمطاعم المطلة على الميدان إما مغلقة أو احترقت جراء أحداث العنف يوم الجمعة 28 كانون الأول.
فما كان من المعتصمين إلا أن لجأوا إلى سحب الكهرباء من أعمدة الانارة التي تضيء الميدان ليلاً. هكذا تحولت إلى أماكن لتجمع المتظاهرين على اختلاف أطيافهم. يلتفون حول موزع للكهرباء، ويتناوبون على إعادة الحياة إلى هواتفهم. وأصبحت جمل كـ«حد معاه شاحن؟» أو «عندكوا فيشة فاضية؟» الأكثر استخداماً بين الشباب في الميدان.
هذه الحلقات الدائرية المتجمعة حول الأعمدة لديها الكثير لتبوح به. «مبارك دمّر حياتي»، يقول محمد محمود متحدثاً إلى شاب من أبناء الطبقة الغنية. يجلسان القرفصاء بجانب أحد أعمدة الكهرباء في الجزيرة الحجرية، التي تتوسط ميدان التحرير. يحملان العلامات المألوفة التي أصبحت بمثابة زي رسمي للقابعين هنا: قطعة من القطن مثبتة بشريط لاصق على الجبين تضمد جروحاً أصيبا بها جراء تراشق المتظاهرين بالحجارة مع فرق البلطجية وغيرهم من مؤيدي النظام.
هذا الشاب «الغني» ليس المصغي الوحيد. فالجميع يريد أن يسمع محمد. هو رجل في منتصف الثلاثينيات، متزوج ويعيش وعائلته مع أسرة زوجته، نظراً لصعوبة الحصول على سكن منفصل. هو رجل هادئ الملامح، حتى إن صوته يخلو من «البحة» التي تصاحب الكثير من المتظاهرين جراء هتافهم المتواصل بشعارات إسقاط النظام. يقول إن الوضع المعيشي الصعب أدى به إلى انفصاله عن زوجته والانضمام إلى الميدان.
أحد الجالسين في الحلقة عند عمود الإنارة يقطع كلام محمد، ليقول نكتة. صاحب النكتة هو شريف زينهم، الذي لا يبدو عليه أي جدية أو وعي لهدف الاعتصام المستمر في ميدان التحرير.
لكن ما الذي جاء به إلى الميدان؟ كان ذلك في «يوم الغضب». يخرج شريف من جيبه ورقة يقول إنها إثبات الإخلاء من خدمة الجيش. ثم يشير إلى خانة خالية في أسفلها ويضيف، عاقداً حاجبيه: «لم يكن ينقصني إلا إمضاء شيخ الحارة في هذه الخانة لأكون قد أنهيت خدمتي. لكنه رفض ذلك إلا مقابل مبلغ كبير من المال عجزت عن دفعه!».
خرج من بيت الشيخ وهو شديد الغضب، فسارع إلى تناول دواء مخدر. قرر المشي في الشارع قليلاً، فلم يستيقظ على نفسه إلا وهو يتوسط حشوداً من المتظاهرين يحاولون اقتحام ميدان التحرير، وعناصر الشرطة تحاول تفريقهم بقنابل الغاز ورشاشات المياه والعصيان والرصاص الحي والمطاطي.
يعود محمد إلى الكلام. الشرارة التي فجرت غضبه وأدت به إلى الطلاق كانت خلافاً مع زوجته على سبب تافه. لكن الأسباب الحقيقية كثيرة. تبدأ من رفض صرف المعونة الحكومية لوالدته بعد وفاة والده. وعندما ذهب للاستفسار عن السبب، قالت الموظفة المختصة: «لا تستحق». يهز رأسه آسفاً، ويقول: «لا تستحق... أم لسبعة أولاد يعيشون في غرفة واحدة لا تستحق». هذا الرفض تبعته مصيبة أخرى. فقد جرى التخلي عنه كعامل دهان في المؤسسات التابعة للجيش، بعد اعتراضه على اختلاس بعض رؤسائه من الضباط للأموال.
يمد الشاب الأنيق يده يربت بها كتف محمد مطمئناً. ينظر إليه الآخر ثم يغلق عينيه ويهز رأسه. بعد قليل يقول: «على فكرة لم أكن أتخيل أنه سيأتي اليوم الذي أجلس فيه هكذا مع أبناء الباشاوات، نتشارك الهموم والطعام والمبيت».
بالنسبة إلى الكثير من المعتصمين في الميدان، ليست المطالب السياسية هي سبب نزولهم إلى الشارع وحثهم على الصمود وعدم فض اعتصامهم، بل هو فيضان الكيل وانفجار الغضب المكبوت. بالتالي، فإن النظر إلى الاعتصام والتظاهرات المليونية على أنها استراتيجية متبعة لاغتنام عدد من المكاسب السياسية لا يعطي للأحداث كامل حقها. فما يحدث في مصر الآن هو قبل كل شيء تعبير شعبي ضخم عن اليأس والغبن المخزن.