عطر مشموم الفلّ التونسي ضاع بسرعة في مصر قبل موسم شم النسيم. غار المصريون من أشقائهم التوانسة فلم يتأخروا أكثر من أسبوعين ليتلقّفوا راية الثورة ويرفعوها في ميدان التحرير. في باريس، مساء الخامس والعشرين من كانون الثاني كان المخرج السينمائي المصري سمير عبد الله ينقل إلينا عبر هاتفه الجوال أول صورة لأولى تظاهرات المصريين في ميدان التحرير، وكنا نحتفل بانتصار الثورة التونسية.افترقنا في الفجر على أمل أن نلتقي قريباً لنحتفل بانتصار ثورة شعب مصر. كان أصدقاؤنا المصريون والتونسيون يتبادلون المزاح. المصريون يتوعّدون التونسيين بثورة أجمل وأكثر عصفاً وسرعة، ونحن الذين أدمنّا الأمل لم نكن نصدّق أن الدومينو سوف يضرب في مصر بهذه القوة، بعدما غلبنا يأس المنافي، حتى كدنا نفقد ثقتنا بالجماهير.
صحونا في صباح السادس والعشرين على أمواج بشرية من المصريين تتوافد الى ساحة ميدان التحرير. وكلما كبرت الموجة المصرية، ازداد اليقين بأن ثورة مصر لاحقة بركب أختها التونسية، وأن مبارك ينتظره مصير ليس أقل هولاً من مصير زميله التونسي الهارب بن علي.
منذ أن باتت الثورة المصرية حدثاً لا رجعة عنه يوم جمعة الغضب في الثامن والعشرين من كانون الثاني، صارت وقائع الثورتين متلازمة، إلى حد تشابه اليوميات في الشوارع والكواليس. تشابه حدّ التماهي في رد فعل وسلوك الشرطة وجهاز الحزب الحاكم والجيش والمعارضة والشارع، وهو الأمر الذي انسحب حتى على المواقف العربية والدولية، مروراً بإسرائيل وانتهاءً بالسعودية، مع التوقف عند قناة «الجزيرة» التي وفّرت منبراً للثورتين.
كثير من الأسباب والتشابهات تدفع إلى القول بأن هذين النظامين كان عليهما أن ينهارا معاً، لكأنهما عُجِنا من العجينة نفسها. كأن أحدهما كان متكئاً على الآخر، وبالتالي فإن مآل الثاني كان مُتضمَّنا في بنية الأول. وعلى الرغم من سخرية مبارك من الذين تحدثوا عن مصر البلد العربي الذي يمكن أن يسقط عشية سقوط تونس، فقد كانت الإشارات التي لا تخطئ تشير إلى أنه آن الأوان لشعب مصر كي يتخلص من نير ثلاثين سنة، ويعود إلى محيطه العربي وإلى ريادته السابقة. لقد كانت نشوة السلطة وعماها هي التي تتحدث وليس الطيّار الذي لم يتوقف عن الحديث عن بطولاته يوماً.
جيش تونس ضرب مثالاً في الوطنية، وبرهن على أنه جيش الجمهورية والشعب. لم يستجب لأوامر الديكتاتور، ورفض أن يحميه من غضبة الشعب. قال إنه من الشعب ولحماية الشعب ومؤسسات الجمهورية.
بدوره، جيش مصر لم يسجّل على نفسه تلويث تاريخه الوطني المجيد. أبى جيش العبور وانتصار أكتوبر أن يطلق طلقة واحدة في اتجاه المتظاهرين وتحوّلت آلياته العسكرية في ساحة التحرير إلى مساحات يسجل عليها المتظاهرون شعاراتهم ضد النظام. نزل كبار الضباط إلى ميدان التحرير عدة مرات لكي يقنعوا المتظاهرين بإخلاء الميدان، لكنهم كانوا يتراجعون في كل مرة أمام إصرار الشباب على إسقاط نظام مبارك.
ومن دون شك، فإن الرئيس المصري حاول عدة مرات إخافة المتظاهرين عن طريق التلويح بالجيش، وعيّن أحد أفراد المؤسسة العسكرية نائباً له، ظناً منه أن عمر سليمان روّض هذه المؤسسة، لكنها انحازت في اللحظة الأساسية للشعب.
سلوك الجيشين التونسي والمصري تجاه ثورة شعبية يعدّ سابقة في العالم العربي، حيث كان الحكام يظنون أن الجيوش ساهرة على حراستهم، فناموا على حرير الطمأنينة، وهم يحلمون بسلطان يدوم ما داموا على قيد الحياة. ومنهم من ذهبت به النشوة الى تحويل الجمهورية إلى مزرعة سلالية متوارثة. ومن سوء أقدار مبارك أنه عسكري، لكن العسكر لم يشأ أن يساعده، مثلما رفض الجيش التونسي دعم الجنرال ورفض إطلاق الرصاص على مواطنيه، فما كان من مبارك إلا أن استخدم، كما فعل بن علي في تونس، الشرطة، ولمّا انهارت استعان بالبلطجية، ولو أن التونسيين لم يعرفوا اسم البلطجة، بل تحدثوا عن ميليشيات الحزب الحاكم.
انتهى النظام المصري، ولم يبق معه إلى آخر دقيقة، سوى إسرائيل (وهو ما تفهمه المصريون حين طالبوا مبارك بطلب اللجوء إليها) والعربية السعودية (التي استفاقت وعبّرت عن رغبتها المتأخرة في تعويض المساعدات الأميركية التي تهدّد أميركا بقطعها). وهذان البلدان، السعودية وإسرائيل، هما اللذان وقفا إلى جانب طاغية تونس.
بدورها، الأحزاب الرسمية المعارضة لم يكن لها دور كبير في الانتفاضة في مصر، ولا في تونس، وتركت المجال لشبيبة قيل عنها، خطأ أو تبسيطاً، إنها ليست مُسيَّسة لكنها كانت أكثر تصميماً على إحداث تغيير راديكالي حقيقي، واستطاعت إنجازه.
يوم الجمعة نذير نحس على الطغاة العرب. على الأقل على زين العابدين وعلى رئيس مصر. ها هو يهرب أو يتخلّى يوم الجمعة.