تشير «مسيرة الملايين» في القاهرة إلى بروز مذهل لمجتمع سياسي جديد في مصر. تجمع هذه الانتفاضة ائتلافاً جديداً من القوى، يضمّ عناصر من الدولة الأمنية أعادت تكوين نفسها، ورجال أعمال مشهورين، وناشطين أمميين، وحركات شعبية جديدة نسبياً (أو تكوّنت أخيراً) من الشباب والعمال والنساء والمجموعات الدينية. فقد الرئيس حسني مبارك قوته السياسية يوم الجمعة في 28 كانون الثاني. في هذه الليلة، سمح الجيش بحرق المركز الرئيسي لحزب مبارك الحاكم، وأمر كتائب الشرطة التي تهاجم المتظاهرين بالعودة إلى ثكنها. عندما صدحت الأصوات داعيةً إلى صلاة العشاء ولم يهتم أحد بحظر التجوال الذي أمر به مبارك، كان واضحاً أنّ الرئيس العجوز أصبح يمتلك سلطة وهمية. لفهم الاتجاه الذي تذهب إليه مصر، وما قد يكون شكل الديموقراطية هناك، يجب أن نضع التعبئة الشعبية الفريدة والناجحة في سياقها العسكري والاقتصادي والاجتماعي. فما هي القوى الأخرى وراء سقوط مبارك المفاجئ؟يعاني معلّقون سياسيون عديدون، وبعض الأكاديميين والمحللين السياسيين صعوبة في فهم تعقيد القوى التي تقف وراء هذه الأحداث الخطيرة وتتجاوب معها. يعود هذا الارتباك إلى أنّ الجميع يستخدم ثنائية «الأخيار مقابل الأشرار» في نظرته إلى هذه الانتفاضة. تخفي وجهات النظر هذه أكثر مما توضح. هناك ثلاثة نماذج مزدوجة، لكلّ منها تبعاتها الخاصة: 1) الشعب مقابل الديكتاتورية، وتؤدّي هذه النظرة إلى سذاجة ليبرالية ولغط حول الدور الفعلي للجيش والنخبة في هذه الانتفاضة. 2) العلمانيون مقابل الإسلاميين، وتؤدي هذه النظرة إلى نداء من أجل «الاستقرار»، كما في الثمانينيات، وإلى خوف من الإسلام حيال احتواء «الشارع العربي» المفترض أنّه متطرف. أو، 3) الحرس القديم مقابل الشباب الغاضب، وتفرض هذه النظرة نوعاً من الرومنسية على الاحتجاجات لكنّها لا تفسر الديناميّات البنيوية والمؤسساتية التي تقف وراء الانتفاضة، كذلك لا تأخذ في حسابها الأدوار الرئيسية التي تؤديها شخصيات من عهد عبد الناصر، تبلغ السبعينيات من عمرها.
لرسم صورة أكثر شمولاً، قد يكون من المساعد تعريف الأجزاء المتحركة في مؤسسات الجيش والشرطة في الدولة الأمنية، وكيف يمكن ربط المواجهات داخل هذه المؤسسات القمعية وبينها بهرمية الطبقات المتغيرة والتشكيلات الأساسية. كذلك سأدرس هذه العوامل في علاقتها مع اتساع الحركات الاجتماعية الجديدة غير الدينية، والهوية الأممية أو الإنسانية لبعض الشخصيات التي تبرز في تحالف المعارضة الجديد. ينحو المعلقون الغربيون، ليبراليين كانوا، أو يساريين أو محافظين، إلى رؤية كل قوى القمع في دول غير ديموقراطية بما هي أدوات «الديكتاتورية»، أو تعبير عن إرادة القائد المستبد. لكن لكلّ مؤسسة من الشرطة، أو الجيش أو الأمن، تاريخها وثقافتها وولاءاتها الطبقية الخاصة، وأحياناً لديها مصادر دخل ودعم خاصة بها أيضاً.
تدير قوات الشرطة في مصر وزارة الداخلية التي كانت قريبة جداً من مبارك والرئاسة، وأصبحت تعتمد عليه سياسياً. لكن اكتسبت أقسام الشرطة استقلالية نسبية خلال العقود الماضية. في بعض الأقسام، اتخذت هذه الاستقلالية مظهر تبنّي أيديولوجية عسكرية أو مهمة أخلاقية، أو روّجت بعض أقسام شرطة الأخلاق للمخدرات، أو أدار بعضها شبكات ابتزاز وحماية ضغط عبرها على الأعمال الصغيرة المحلية. إنّ الاعتماد السياسي للشرطة، من منظور تصاعدي، ليست عالية. أصبحت الشرطة تهتم بمصالحها الخاصة وذات طابع مقاولات على مستوى الأقسام. في الثمانينيات، واجهت الشرطة نمو «العصابات»، التي يشار إليها بالبلطجية. لقد حققت منظمات الشوارع هذه حكماً ذاتياً في بعض مستوطنات القاهرة غير الرسمية، وعشوائياتها. استنتج الأجانب والبورجوازية المصرية أنّ البلطجية إسلاميون، لكنّهم كانوا بأغلبهم غير مؤدلجين بالمرّة. في بداية التسعينيات، قرّرت وزارة الداخلية أنّه «إذا لا يمكنك الانتصار عليهم، فوظّفهم». بدأت، إذاً، وزارة الداخلية وقوى الأمن المركزية، بتلزيم القمع إلى هؤلاء البلطجية، ودفعوا لهم مبالغ جيدة، ودربوهم على استخدام العنف الجنسي (من التحرش إلى الاغتصاب) لمعاقبة المتظاهرات والمحتجزين الذكور، على السواء وردعهم. وخلال هذه الفترة، حوّلت وزارة الداخلية أيضاً مباحث أمن الدولة إلى خطر وحشي، عبر اعتقال أعداد كبيرة من المعارضين السياسيين المحليين وتعذيبهم.
وعلى نحو مستقل عن وزارة الداخلية، لدينا الأمن المركزي. هؤلاء هم الرجال الذين يلبسون زياً أسود وخوذات، ويشار إليهم في الإعلام على أنّهم الشرطة. كان من المفترض أن يكون الأمن المركزي ذراع مبارك الخاصة. هؤلاء ليسوا حرساً ثورياً أو كتائب أخلاقية مثل الباسيج الذين قمعوا متظاهري الثورة الخضراء في إيران. على العكس، فإنّ عناصر الأمن المركزي لا يحصلون على رواتب عالية وهم غير مؤدلجين. أكثر من ذلك، في أوقات حرجة، انتفضت كتائب الأمن المركزي بأعداد كبيرة ضد مبارك نفسه، للمطالبة برواتب وظروف عمل أفضل. ربما لولا المساعدة الشريرة من البلطجية العنيفين، لما كانوا قوة مخيفة. أصبحت نظرة الاستسلام الفاتر في عيون جنود الأمن المركزي، وهم يتلقّون القبلات ويجرَّدون من سلاحهم على أيدي المتظاهرين، بلطف، أكثر الصور رمزية، حتى الآن، في هذه الثورة. يمكن حساب لحظة تبدد سلطة مبارك، حين قبّل المتظاهرون خدود ضباط المركزية الذين اختفوا وسط دخان الغاز المسيّل للدموع، ولم يعودوا.
لا ترتبط القوى المسلحة لجمهورية مصر العربية بالأمن المركزي أو الشرطة، وتعدّ نفسها دولة مستقلّة بحدّ ذاتها. يمكن المرء أن يقول إنّ مصر لا تزال «ديكتاتورية عسكرية»، بما أنّ النظام لا يزال هو نفسه منذ ثورة الضباط الأحرار في الخمسينيات. لكن بدأ تهميش الجيش منذ وقّع الرئيس المصري أنور السادات اتفاقية كامب ديفيد مع إسرائيل والولايات المتحدة. منذ 1977، لم يسمح للجيش بمحاربة أحد. وفي المقابل، منح الجنرالات رشى كبيرة من الولايات المتحدة. مُنحوا امتيازات لبناء مراكز للتسوق في مصر، ومدن كبيرة في الصحراء، ومنتجعات على السواحل. كذلك يشجّعونهم على الانتساب إلى النوادي الاجتماعية الرخيصة.
هذه الرشى جعلتهم جماعة منظمة جداً من رجال الأعمال القوميين. ينجذبون إلى الاستثمارات الأجنبية، لكن ولاءاتهم متجذرة اقتصادياً ورمزياً في الأراضي الوطنية. مثلما نرى حين نراقب أمثلة أخرى في المنطقة (باكستان، والعراق والخليج)، فإنّ مال المساعدات العسكرية الأميركي لا يشتري الولاء لأميركا؛ هو يشتري العداء فقط. في السنوات الأخيرة، يسود في الجيش المصري شعور جماعي متزايد بالحس الوطني، وهو طوّر عاراً مريراً لما يراه «ذكورة مخصية». يشعر بأنّه لم يكن عند حسن ظن شعب الأمّة. تريد القوى المسلحة الوطنية استعادة شرفها، وهي مستاءة من فساد الشرطة وعنف البلطجية. ويبدو أنّ الجيش، وأعضاؤه اليوم «رأسماليون وطنيون»، يرون أنفسهم منافسين شرسين لـ«الرأسماليين الأصدقاء» المرتبطين بجمال، ابن حسني مبارك. هؤلاء خصخصوا كل ما استطاعوا وضع يدهم عليه، وباعوا أصول البلاد للصين، والولايات المتحدة ورأس مال الخليج.
لهذا يمكننا أن نرى لماذا كان هناك في المرحلة الأولى من هذه الثورة، يوم الجمعة في 28 كانون الثاني، «انقلاب» صغير من الجيش على الشرطة والأمن المركزي، واختفاء جمال مبارك ووزير الداخلية المكروه حبيب العادلي. لكن الجيش منقسم أيضاً بسبب تناقضات داخلية. هناك جناحان نخبويان في القوات المسلحة: الحرس الجمهوري والقوات الجوية. بقي الجناحان قريبين من مبارك، فيما انقلب باقي الجيش عليه. هذا يفسر لماذا تجوّل القائد العام للقوات المسلحة المشير محمد طنطاوي بين المتظاهرين ليعبّر عن مساندته في 30 كانون الثاني، فيما عيّن قائد القوات الجوية رئيساً جديداً للوزراء وأرسل طائرات لإخافة المتظاهرين أنفسهم. يفسر ذلك أيضاً لماذا حمى الحرس الجمهوري مبنى الإذاعة والتلفزيون وحارب المتظاهرين في 28 كانون الثاني عوض مساندتهم.
كان نائب الرئيس عمر سليمان، المعيّن في 29 كانون الثاني، رئيس الاستخبارات العامة. هي أيضاً جزء من الجيش (لا الشرطة). الاستخبارات مسؤولة عن العمليات السرية الخارجية، الاعتقالات والاستجوابات (وبالتالي التعذيب وتسليم المعتقلين غير المصريين). وبما أنّ استخبارات سليمان لم تعتقل وتعذب العديد من المناوئين المصريين على المستوى المحلي، فإنّها أقل كرهاً من المباحث. الاستخبارات هي في موقف حاسم مثل «الصوت المرجح». احتقر جهاز الاستخبارات جمال مبارك وزمرة «الرأسماليين الأصدقاء»، لكنّه مهووس بالاستقرار ويتمتع بعلاقات حميمة مع الـ«سي آي إيه» والجيش الأميركي. صعود الجيش، ومن ضمنه جهاز الاستخبارات، يفسر لماذا طُرد كلّ شركاء جمال مبارك في الأعمال، من الحكومة في 28 كانون الثاني، ولماذا عيّن سليمان نائباً للرئيس. ستكون هذه الثورة أو التغيير في النظام كاملاً في اللحظة التي تعزز التوجهات المعادية لمبارك في الجيش موقفها وتطمئن جهاز الاستخبارات والقوات الجوية أنّهم يستطيعون الانفتاح على الحركات الشعبية الجديدة والأحزاب المتحالفة حول القائد المعارض البرادعي. هذا ما قد يعتقده قارئ متفائل حين يسمع بما يصفه أوباما وكلينتون بـ«انتقال منظم للسلطة».
يوم الاثنين في 31 كانون الثاني، رأينا نجيب ساويرس، وهو ربما أثرى رجل أعمال في مصر والقائد الرمزي لزمرة «الرأسماليين الوطنيين» المطوّرة، ينضم إلى المتظاهرين ويطالب برحيل مبارك. خلال العقد الماضي، أصبح ساويرس وحلفاؤه مهددين من النيوليبرالية المتطرفة التي ينتهجها مبارك وابنه وتفضيلهم للمستثمرين الغربيين، والأوروبيين والصينيين على المستثمرين الوطنيين، لأنّ استثماراتهم تتقاطع مع تلك التي ينفّذها الجيش، لدى رجال الأعمال هؤلاء مصالح متجذرة، حرفياً، في الأرض والموارد ومشاريع التنمية الوطنية. لقد أصبحوا غاضبين جداً من فساد الحلقة المحيطة بمبارك.
تزامناً مع عودة رأس المال الوطني المرتبط بالجيش والمصطفّ ضد الشرطة (وهو ما حصل أيضاً خلال النضال ضد الاستعمار البريطاني في الثلاثينيات والخمسينيات)، كانت هناك عودة لحركات عمالية قوية جداً وعلى درجة عالية من التنظيم، وخصوصاً بين الشباب. اتسمت سنتا 2009 و2010 بتظاهرات وطنية شعبية، اعتصامات واحتجاجات عمالية واضحة، أحياناً في الأماكن نفسها التي توالدت فيها انتفاضة 2011. وقد انتفضت المناطق الريفية على جهود الحكومة لطرد مزارعين صغار من أراضيهم، ومعارضة محاولات النظام لإعادة خلق إقطاعيات الأراضي الكبيرة التي ميّزت الريف المصري خلال أيام السلطنة العثمانية والاستعمار البريطاني. في 2008، رأينا صعود حركة «6 أبريل» مع مئة ألف متظاهر، هي التي تقدمت إضراباً وطنياً عاماً. وفي 2008 وكانون الأول 2010 رأينا بروز نقابات عمال القطاع العام المستقلة. وأخيراً، في 30 كانون الثاني 2011 اندمجت مجموعات نقابية من معظم المدن الصناعية الكبرى لتؤلف «اتحاد العمال المستقل». نظمت هذه التحركات الأحزاب اليسارية الجديدة التي لا علاقة لها بالإخوان المسلمين ولا بالجيل القديم من الناصريين. لا يعرّفون عن أنفسهم بأنهّم معادون للإسلام، بالطبع، ولا يثيرون مسألة الانقسامات العلمانية ــ الدينية. مصلحتهم في حماية المصانع الصغيرة والأراضي الزراعية، والمطالبة بالاستثمار العام في التنمية الاقتصادية الوطنية تتوافق مع بعض مصالح التحالف الرأسمالي الوطني الجديد. وبالتالي، وراء موجة الاحتجاجات التي تدفعها المنظمات غير الحكومية والفايسبوك، هناك قوى بنيوية واقتصادية كبيرة واصطفافات مؤسساتية تعمل. يبلغ عدد سكان مصر، رسمياً، 81 مليون شخص، لكن في الحقيقة يتخطى الرقم 100 مليون لأنّ بعض الأهالي لا يسجلون كل أولادهم كي لا يخدموا في الأمن المركزي أو الجيش. أصبحت التحركات التي تنسّق على الإنترنت وفي المجتمع مهمة جداً مع تحوّل الفئة الشبابية الصاعدة إلى قطاع منظم. يمكن تقسيمهم إلى ثلاثة توجهات. أول مجموعة من هذه الحركات الجديدة نظمتها القواعد والمنظمات الدولية، وبالتالي قد تميل إلى وجهات نظر وخطابات علمانية ومتعولمة. المجموعة الثانية تنتظم من خلال الثقافة القانونية الفاعلة والجازمة والمؤسسات القانونية المستقلة في مصر. هذه الثقافة القانونية القوية ليست بالطبع منتج «حقوق إنسان غربي» مستورد. المحامون، والقضاة وملايين من المتقاضين ــ نساء ورجال، من الطبقة الوسطى وفلاحون ونخبة ــ أبقوا النظام القضائي على قيد الحياة ولديهم تاريخ طويل من مقاومة الاستبداد والمخاطرة بالحقوق من كل الانواع. تمثل المجموعة الثالثة من الحركات الاجتماعية الجديدة تقاطع المنظمات غير الحكومية الأممية، ومجموعات الحقوق القضائية والحركات الاجتماعية اليسارية الجديدة والنسوية والريفية والعمالية. المجموعة الأخيرة تنتقد شمولية الخطابات العلمانية للأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية، وتعتمد على قوة ناشطي مصر الحقوقيين والعماليين، ولديها استراتيجياتها وحلولها المبتكرة الخاصة التي كان قسم منها معروضاً بنحو بارز في الشوارع.
العنصر الأخير الذي تجب دراسته هو الدور المهم، الذي يجري تجاهله أحياناً، كما أدته مصر في الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية، وكيف يعود هذا التاريخ لبث الحياة في السياسات المحلية ويمنح الشرعية والقيادة في هذا الوقت. محمد البرادعي، المدير السابق لوكالة الأمم المتحدة للطاقة الذرية، برز خياراً توافقياً للجمعية الوطنية للتغيير التي تطلب منه أن يكون رئيساً انتقالياً، يشرف على عملية وطنية لبناء التوافق وصوغ الدستور. في العقد الماضي، قاد البرادعي الوكالة وينسب له الفضل في تأكيد عدم وجود أسلحة دمار شامل في العراق، وأنّ إيران لا تطوّر برنامجاً للأسلحة النووية. ربح جائزة نوبل لأنّه دعم القانون الدولي في مواجهة موجة جديدة من الحروب العدوانية ولأنّه أوقف زخم الحرب على إيران. ليس البرادعي أصولياً وهو ليس غاندي مصر، لكنّه ليس ضعيفاً أو لعبة في يد الولايات المتحدة. معظم الأسبوع، وقف إلى جانبه خالد أبو النجا، وهو ممثل شارك في أفلام مصرية وأميركية وسفير نوايا حسنة لدى اليونيسف. قد يكون ما يحصل ثورة إنسانية تقودها الأمم المتحدة أكثر من انتفاضة من الإخوان المسلمين. هذا تغيير في الحكم خاص بالقرن الواحد والعشرين، أي محليّ وعالميّ، في آن.
الوقت مناسب لنذكّر أنفسنا بأنّ التدخل الأول العسكري ــ الإنساني لحفظ السلام الذي قادته الأمم المتحدة عبر قوات الطوارئ، سانده جمال عبد الناصر والرئيس الأميركي دوايت آيزنهاور. كان ذلك في 1960، من أجل حفظ السلام في غزة ومنع القوى الاستعمارية السابقة وإسرائيل، من اجتياح مصر لاستعادة قناة السويس وإعادة مصر إلى بيت الطاعة. ثم في التسعينيات، كان بطرس بطرس غالي الأمين العام للأمم المتحدة. صاغ بطرس غالي مذاهب جديدة للأمم المتحدة حول بناء الدولة والتدخل الإنساني العسكري. لكنّه طرد بعد إصراره على ضرورة تطبيق حقوق الإنسان العالمية والقانون الإنساني بنحو محايد وشامل، عوض فعل ذلك حين يناسب الأمر قوى مجلس الأمن. لكن تستمر علاقة مصر مع الأمم المتحدة. واليوم فإنّ عايدة سيف الدولة، وهي واحدة من قادة الجيل الجديد للحركات الاجتماعية والنسوية المصرية الأكثر فصاحة وشجاعة وابتكاراً، مرشحة لمنصب رفيع هو مقرر الأمم المتحدة للتعذيب. لدى المصريين تاريخ طويل في الاستثمار في القانون الدولي والقواعد الإنسانية وحقوق الإنسان ومساندتها. يصرّ الأمميون المصريون على التطبيق المتساوي لمبادئ حقوق الإنسان وقوانين الحرب الإنسانية، حتى في وجه ضغوط القوى الكبرى. في هذا الإطار، بروز البرادعي قائداً، منطقي جداً. وذلك رغم أنّ البعد الدولي لانتفاضة مصر «المحلية» يتجاهله معظم المعلقين الليبراليين الذين يعتقدون أنّ «دولي» يعني «غربي» وأنّ متظاهري مصر مدفوعون بسياسات المعدة عوضاً عن قضايا مبدئية.
مبارك أصبح خارج السلطة منذ زمن. الحكومة الجديدة تضم مسؤولي الاستخبارات والقوات الجوية والسجون، وكذلك من مسؤول في منظمة العمل الدولية. تجسد هذه المجموعة «تحالف استقرار» متشدداً، سيعمل لتحقيق مصالح الجيش الجديد، ورأس المال الوطني والعمال، مع تطمين الولايات المتحدة، في الوقت نفسه. التغيير يعكس تحوّلاً كبيراً في التوجه السياسي. لكن لن يكون أي تغيير انتقالاً ديموقراطياً حتى يدخل تحالف كبير من الحركات الاجتماعية المحلية والمصريين الأمميين هذه الدائرة، ويصروا على وضع شروط الانتقال وبرامجه.
أراهن على أنه حتى القادة المتشددون في الحكومة الجديدة سيكونون عاجزين عن مقاومة مشاركة الإرادة الكبيرة لهذه الانتفاضات الشعبية، المدعومة بمئة مليون مصري.

* استاذ مساعد في الدراسات الدولية في جامعة كاليفورنيا (عن موقع «جدليّة» www.jadaliyya.com)
ترجمة: ديما شريف