القاهرة| منذ بضع سنوات، تجمّعت مجموعة من الشباب في أحد المنازل فوق هضبة المقطَّم في العاصمة المصرية. وفي لحظة اختلط فيها اليأس بالسخرية والبحث عن أمل ما في سواد العتمة التي خيّمت على مصر لأكثر من 30 عاماً، سجّل هؤلاء الشباب أغنية بعنوان «مبارك مات». الأغنية التي تستعير كلمات أغنية الشيخ إمام، «غيفارا مات»، لتحوّلها إلى «مبارك مات... آخر خبر في الراديوهات»، كانت تسخر من «خلود» الرئيس حسني مبارك «وأنا اللي كنت فاكره أنه هيفضل موجود على طول/ طيب مش تقول إن الناس دي بتموت/ دا من ساعة ما أنا اتولدت وفي حاجتين متغيروش: ربنا والقائد الأعلى للجيوش»، في إشارة إلى رئيس الجمهورية.
تفرّقت السبل بهذه المجموعة، لكنّ أفرادها عادوا للالتقاء على مدار أيام الثورة المصرية في ميدان التحرير. شعور غريب انتابهم؛ فمنذ سنوات، كانت أقصى أمانيهم موت الرئيس، لا لشيء إلا فقط لتغيير صور مبارك المنتشرة في كل مكان، والآن كانوا جميعاً، مثل ملايين المصريين، يسهمون ليس في تغيير صورة الرئيس فقط، بل أيضاً كانوا يسقطون النظام.
حالة عدم التصديق والدهشة هي التي كانت مسيطرة على الجميع ليلة تنحّي الرئيس. في شارع رمسيس، وسط الاحتفالات، يسأل طفل شقيقه الأكبر «يعني خلاص حيشيلوا كل صور مبارك وزوجته من على الكتب». وعلى أحد الطرق السريعة، يتوقف رجل أربعيني ويُخرج علبة حلويات ليقدمها إلى الجنود المرابطين بجوار دبابة ومدرعتين، والضابط الشاب يحاول التحكم في انفعاله وهو يقول «عمري ما حسّيت بقيمة البدلة الّي أنا لابسها غير النهارده». وفي بقية الشوارع، التحية الرسمية بين أي شخصين كانت «مبروك» والرد «مبروك علينا كلنا».
بعض هؤلاء كان قلقهم قد تزايد خلال الأيام الماضية. البعض كان يقول «الرئيس جيد، وقال إنه لن يرشح نفسه، كفاية تظاهرات، عايزين نشوف أكل عيشنا».
كانت هذه نغمة قوية بكل تأكيد، لكن مع إعلان الرئيس «التخلي» عن الحكم، كانت الفرحة ملكاً للجميع: منهم من قضى الليالي الطويلة في «التحرير»، ومن فضّل متابعتها على التلفزيون، الكل كان في الشارع والفرحة كانت ملك الجميع.
لم يكن التعبير عن الفرحة بالهتاف والأغاني التي حضرت في الميدان وكل شوارع مصر، بل كانت رسائل التهنئة والنكات متبادلة بين الجميع، في الرسائل الهاتفية القصيرة، وفي الأحاديث بين جموع المحتفلين: «مبارك طلع السما، قابله جمال عبد الناصر وأنور السادات فسألاه: سمّ أم اغتيال؟ أجابهما: فايسبوك». شاب يقف في شارع بوسط البلد، عاجزاً عن التعبير عن فرحته يقول: «أنا خايف بكرا التلفزيون يقول كل اللي حصل كان كاميرا خفية، ضحكنا عليكم، الرئيس لم يتنحَّ».
صباح جديد من نوعه بلا مبارك ولا رجال شرطة يعملون تحت أوامره. روح جديدة تنتشر. الأغاني الوطنية عن مصر وحلاوة مصر وعزم رجال مصر التي كانت محل سخرية لعقود طويلة أصبحت فجأةً مؤثرة. أغنية لشادية أو عبد الحليم عن تراب الوطن عادت مرةً ثانية لتصبح قادرة على تفجير دموع فرحة مختلفة من نوعها لم يعرفها المصريون من قبل.
الفرحة واللحظة الرومانسية للثورة تحولت في الصباح إلى مشاعر انتماء. فخر بالذات وحب للبلد. على الهواتف النقالة و«الفايسبوك» والشبكات الاجتماعية تتوارد رسالة نصها يقول «من النهارده، دي بلدك أنت، تاريخك أنت، وطنك أنت، بيتك أنت. ما ترميش زبالة، ما تكسرش إشارة، ما تدفعش رشوة، ما تزوّرش ورقه، إخلِص في شغلك. اشتكي أي جهة تقصّر في شغلها. إبدأ التغيير الذي تريد أن تراه في مصر. ابدأه بنفسك، بإدينا نقدر نبني بلدنا. كلنا إيد واحده. المصريون كلهم إيد واحده».
بين المتظاهرين في ميدان التحرير، تنتشر دعوة إلى تنظيف الميدان. تبدأ العملية بالكنس وجمع الأوراق والمهملات، وتستمر في مشهد فريد من نوعه يتعاون فيه المواطنون لرصف الشارع. إسمنت ورمل لتثبيت الحجارة التي خُلعت من أرض الرصيف لتحويلها سلاحاً للدفاع عن النفس ضد بلطجية الجمال والخيول. وحتى الرصيف الذي لم يكن مطلياً، طُلي.
الإيجابيّة تتحول إلى سلوك مرغوب فيه في كل الشوارع حتى خارج الميدان. في حي «مصر الجديدة»، يرمي مواطن ورقة على الأرض. بلطف وابتسامة يقول له مواطن آخر «شيل الورقة من الأرض، دي خلاص بقت بلدك». يرد عليه «معاك حق» يلتقط الورقة من على الأرض ويضعها في جيبه.
الإيجابية في السلوك والرغبة في التغيير والابتكار ظلت عقوداً رغبة مكبوتة عند ملايين المصريين، فأيّ محاولة للتغيير أو الابتكار حتى في دوائر صغيرة كالشارع أو الحي أو أماكن العمل والنقابات، كانت تواجهها بالقمع منظومة الفساد التي رسّخها مبارك وحكمه طوال سنوات. وفي ساعات قليلة من صباح ثاني أيام الحرية، بدأت تظهر الاحتجاجات العمالية والنقابية للقضاء على الفساد وذيول نظام مبارك في كل المؤسسات، حتى في الأندية الرياضية. هناك، روابط المشجعين التي كانت بمثابة رأس الحربة في المواجهات مع قوات الأمن بداية التظاهرات، بدأت تنسق في ما بينها للقضاء على الفساد الضارب في جذور المؤسسة الرياضية. وأول الأهداف، إسقاط الاتحاد الحالي لكرة القدم، ومحاسبة كل الرياضيين الذين حاولوا قمع أو تشويه تلك الثورة، في مقدمتهم مدرب المنتخب حسن شحاتة، الذي قاد تظاهرات تأييد للرئيس. أهداف أخرى ظهرت: محاسبة المسؤولين في الأندية التابعة لشركات البترول الحكومية، التي تتجاوز موازناتها مئات الملايين من الجنيهات، إلى جانب الدور الذي أدّاه وزير البترول الحالي سامح فهمي في تعيين العديد من اللاعبين برواتب مجزية في شركات البترول التابعة لوزارته، لا لشيء إلا لشراء ولائهم.
مثل الكثيرين من أبناء الطبقة الوسطى المصرية الذين أسهموا في هذه الثورة، نشأت شيرين زكي في واحدة من دول الخليج العربي. حرصت العائلة على أن تتلقّى شيرين أفضل مستويات التعليم، بدايةً من المدرسة الأجنبية المعترف بشهاداتها دولياً، ثم الجامعة الأميركية، والتخرج من إحدى الجامعات الكندية، حيث حصلت على شهادتها في مجال القانون. عادت شيرين إلى القاهرة، وقررت أولاً العمل في إحدى المنظمات الحقوقية، لكن سرعان ما أصابها الإحباط من النظام القانوني المشوَّه في مصر، ومن سلطة القوانين غير الموجودة حقيقةً.
انتقلت للعمل في إحدى الشركات القانونية التجارية. أما الآن، فعملها يركّز على المعاملات التجارية وتأسيس الشركات والنزاعات الاقتصادية. ومثل ملايين الشباب المصري، كان اليأس يتسلل إلى شيرين يوماً بعد يوم، حتى أصبحت تخطط جدياً للهجرة والانتقال للحياة في الخارج.
تغيّرات كثيرة شهدتها وستشهدها مصر ما بعد مبارك، ومن هذه التغيّرات تراجع شيرين عن فكرة الهجرة لأنها ترى أن «الأمور ستتطور هنا نحو الأفضل». تعبّر شيرين عن شريحة عريضة من الشباب المصري، بعضهم نجح في التسلل بطرق غير شرعية إلى أوروبا، وبعضهم الآخر قضى الكثير من سنوات عمره متنقّلاً على أبواب السفارات العربية والأجنبية. كلهم الآن يعيدون النظر في خططهم. بالطبع لدى شيرين وقطاع عريض من هؤلاء الشباب الذين بُحَّ صوتهم في التظاهرات هاتفين «الثورة مدنية»، تخوُّف من تمدد التيارات الإسلامية، سواء «جماعة الإخوان المسلمين» أو التيارات السلفية، لكن شيرين تبدي تفاؤلها، فالصراع مع هذه الجماعات سيكون صراعاً ديموقراطياً، لا تتحكم فيه توازنات السلطة التي كانت تدعم هذا الاتجاه أو ذاك، حسب متطلباتها السياسية الخاصة.
يستوعب المصريون اللحظة، لكنهم يرغبون في تخليدها، ليس كنوع من الفخر والتباهي، بل كي تكون ذكرى للأجيال المقبلة عمّا حدث. ولأهمية الحفاظ على مكتسبات ما حقّقته هذه الثورة، تنطلق دعاوى إطلاق أسماء الشهداء على الشوارع والميادين، لتحل محل أسماء مبارك وعائلته التي احتلت كل الأماكن في مصر. دعوات من فنايين لإقامة عمل تذكاري في قلب الميدان يعتمد في موادّه على الأقمشة والبطانيّات والأغطية وكل الأدوات التي استعان بها المعتصمون للصمود في الميدان. في زاوية صغيرة من شوارع وسط البلد، يقرّر أحمد، صاحب قهوة «التكعيبة» التي كانت ملتقى للكثير من الفنانين والنشطاء الشباب، تغيير اسمها إلى قهوة «ثوار 25 يناير». ظاهرة بالتأكيد سوف نشهد تزايدها في الأيام المقبلة.