مع سقوط حسني مبارك، لم يسقط رئيس عربيّ وحسب، بل سقطت معه أيضاً اللامبالاة التي كادت تنخر قلوب جيل بكامله. فمن تفتّح وعيه على آباء أحبطتهم النكسة، وكَوَتهم الحروب الأهليّة، وحاصرتهم الأنظمة الدكتاتوريّة، استسلم سريعاً لغواية العزلة أو لنوع من أنواع العبثيّة أو البحث عن خلاص فرديّ. لم يكن في المشهد ما يعاكس هذا التوجّه.

الأحزاب في العالم العربي تحوّلت إلى ديناصورات لا تليق إلا للعرض في المتاحف، والنقابات هُشِّمت وضُربت حتّى باتت أشبه بكاريكاتور سخيف عن النضالات العمّاليّة، والمنظّمات غير الحكوميّة رضخت لإغراءات الأموال المربوطة بأجندات محدّدة ومجتزأة وغريبة غالباً عن هموم مجتمعاتها. أمّا شاشات الإنترنت، فمثّلت مخرجاً للاتّصال بالعالم والانفصال عنه في الآن نفسه، حيث بدت الأحداث السياسيّة التي تحصل فعلياً في العالم الحقيقي، كأنّها تحدث في عالم افتراضيّ، أو أنّ النظر إليها عبر العالم الافتراضي يجعل منها أحداثاً غير حقيقيّة. كان ذلك قبل «فايسبوك» و«تويتر» و«يوتيوب»، قبل أن يتحوّل العالم الافتراضي إلى الوسيلة الوحيدة الممكنة للتواصل الاجتماعي حول قضايا عامّة.
لكنّ العالم العربي المحكوم بالحديد والنار الذي لا تزيده التدخّلات السياسية والعسكرية الغربيّة إلا قهراً، وجدت اللامبالاة السياسيّة فيه سنداً في توجّهات باتت تسيطر على العالم أجمع. فقد أسهمت أدبيّات سياسيّة واقتصاديّة كثيرة في إقناع الأفراد حول العالم بأنّ ما يحدث لهم رهن بإمكاناتهم وطاقاتهم، وبأنّ النظام العالمي يتيح الصعود الاجتماعي، لكن للمستحقّين فحسب. وقلّصت الأدبيّات نفسها من دور الدولة، محمِّلةً المجتمع مسؤوليّة إدارة نفسه، إدارة آلت إلى مجموعة من المحتكرين الذين اختفت هويّاتهم تحت ستار الشركات العملاقة. أمّا ضحايا السوق والمرميّون على ضفافه بلا ضمانات ولا عمل، فلم يجدوا في أحسن الأحوال إلا «بونات» الطعام وجمعيّات خيريّة تحوم حول دور العبادة.
كان لتلك الأدبيّات من يروّجها. وكان للّامبالاة من يشجّعها. والمروّجون والمشجّعون هم من شنّوا حرباً على ما عدّوه «لغة خشبيّة» كي يقنعوا أنفسهم بأنّهم من النخبة الطليعيّة أو من المثقّفين «الكوووول» (cool). لكن، ها هي مصر تردّنا من جديد إلى تلك اللغة الجميلة. فمَن كان يحسب قبل أشهر أنّ كلمة «ثورة» ستعود إلى التداول، وأنّ شعاراً بسيطاً كـ«الشعب يريد إسقاط النظام» سينتهي فعلاً إلى إسقاط النظام؟
لقد أثبتت ثورة مصر أنّ ألسنةً قد يصيبها التخشُّب. أمّا إرادة الشعوب، فكلّ لغاتها حيّة.