هزّ زلزالان سياسيّان مدويّان الوطن العربي في شهر كانون الأول/ ديسمبر وكانون الثاني/يناير الماضيين: نجاح ثورتي الياسمين في تونس والميدان في مصر وتحطيم صنميهما (بن علي ومبارك). وفي هذه اللحظات التاريخية، أعيد وضع هذا الوطن على الجغرافيا من جديد، وعاد الشعور بأناقة العروبة إلى أبناء الوطن. وأهمية هاتين الثورتين أنّه يكمن فيهما التقاء الاجتماعي والديموقراطي في مطالب الشعبين التونسي والمصري.
ففي تونس، حدث أن لحق بانتفاضة مدينة قفصة في تونس قبل سنتين حول الخبز والبطالة، تظاهرة مستخدمي الإنترنت والفايسبوك في مدينة جرجيس التونسية، مطالبين بتحرير المسجونين وإعطاء حرية الرأي والتعبير.
في الانتفاضتين التونسية والمصرية، تمثّلت انتفاضة الشباب الجامعي المتعلم والعاطل من العمل والعمال، تلك التي اتّسمت بقدرتها على دمج الاجتماعي بالديموقراطي. فحساسية المتظاهرين من البطالة وعداؤهم للنظام الاقتصادي النيوليبرالي والـNeopatrimonialism (استخدام موارد الدولة من الزعيم لضمان ولاء فئات من الشعب له) مربوطة بحساسيتهم بأهمية بالعدالة (في تونس هوّة اقتصادية بين أقاليم الداخل والجنوب، من جهة، والعاصمة والأقاليم الساحلية الشرقية، من جهة أخرى) والكرامة والحرية: حرية الانتماء للأحزاب والجماعات السياسية، حرية التعبير، حرية ممارسة الشعائر الدينية، حرية الكتابة ضد الفاسدين من أعضاء الحكومة، أو عائلتي مبارك وبن علي وعائلة زوجته الطرابلسي.
وهكذا، فإنّ التقاء الاجتماعي بالديموقراطي هو الذي جعل الشباب التونسيين والمصريين يشعرون بأنّهم تحوّلوا إلى كائن مستباح (Homo Sacer)، بالمعنى الذي يعطيه له الفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبن. أي أصبحوا أجساداً عزلاء جائعة، جرّدها النظام من ذاتيتها السياسية ومن حقها في الانتماء لتيارات وأحزاب، وأدخلها النظامان في دائرة الممنوع (كما هي الحال في حركة النهضة الإسلامية وحزب العمال الشيوعي التونسي وحركة الإخوان المسلمين وحزب الكرامة).
فعندما تحوّل الرئيسان إلى حاكمين وصاحبي القرار الوحيد في تطبيق القانون أو تعليقه، وفي منح أو حرمان الإنسان التونسي والمصري من الحياة الكريمة والعادلة، استباحت أجهزتهما هذا الإنسان عبر النهب الاقتصادي والتسلط البوليسي والاعتقال والتعذيب والتصفية من دون محاسبة عادلة. لقد كتب السوسيولوجي التونسي محسن بوعزيزي، في الكتاب الجماعي الذي حررته حول «حالة الاستثناء والمقاومة في الوطن العربي»، عن التعبيرات الصامتة لدى الشباب التونسي ليؤكد اللامبالاة بالشأن العام والانصراف عن السياسة والغرق الكلي في الشأن الخاص. لكن ما لم يره بوعزيزي هو أنّ ابن مدينته سيدي بوزيد (محمد بوعزيزي) قد تجاوز مجرد اللامبالاة، إذ انفصل عن البنى الاجتماعية ليتحوّل الى ذات محركة للحركة الاجتماعية. فجسده، كجسد الكثير من الشبان التوانسة، الذي هو مرمى للنظام القمعي للسلطة التأديبية والحيوية الهادفة إلى التجريد الجذري من أيّ شكل من أشكال الفاعلية السياسية، قد أصبح بانتحاره موقفاً لمقاومة هذا النظام، وفيه تتحقق الفاعلية في لحظة تدمير الجسد لذاته. إننا في لحظة، كما وصفتها الباحثة الفلسطينية مي الجيوسي (في الكتاب نفسه المشار إليه أعلاه)، شبيهة بحالة المقاومين الفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة. تحدى هؤلاء السلطة السيادية التي أرادت لهم أن يكونوا أناساً مستباحين، يمكن قتلهم بدون التضحية بهم (هو الموت الذي لا قيمة له). لقد تحوّل محمد بوعزيزي ورفاقه الذين ماتوا انتحاراً إلى فاعلين ضحّوا بأنفسهم، قالبين بذلك العلاقة مع السلطة السيادية.
لكن على الرغم من شراسة نظام بن علي وفساده واستخدامه لحالة الاستثناء والطوارئ الدائمة، ليس هناك نظام استبداد كلي (Total Institution)، فالدولة المصرية ذات المليون ونصف مليون رجل أمن وشرطي و450 ألف جندي عسكري والسجون التعذيبية (خدمة لأجهزة الاستخبارات العالمية)، لم تستطع مواجهة الشباب الثائر في ساحة التحرير والتظاهرات في المدن الأخرى. وفي تونس كان البطش عامل ضعف لا قوة. فمن المثير للانتباه أنّ نظام بن علي «العتيد القوي» لم يستطع جعل الجيش يبطش، كما فعلت الشرطة التونسية. ومن هنا كان للجيش دور مهم في دفع بن علي إلى الفرار. ومظهر آخر من مظاهر ضعف النظام هو نفي معارضيه من المثقفين إلى خارج تونس، فتحوّلوا إلى منظّرين لهذه الانتفاضة وناطقين باسمها. أما مع النظام المصري، فقد أدّت خصخصة الدولة وتحوّلها إلى دولة خاصة للتوريث ولشلة رجال الأعمال المرتبطين بالحزب الحاكم وأعوانه، إلى زوال القواعد الطبقية والاجتماعية والطائفية. جعلها ذلك هشّة أمام مجموع الشباب المرتبطين بشرائح واسعة متوسطة وعمالية.
أخذ البعد الرمزي لهاتين الثورتين أقصى مداه. ففي مصر ظهر الشباب حاملو مطالب الثورة أفراداً متعلمين، سلاحهم الهاتف النقّال لأخذ الصور، والكمبيوتر المحمول للتواصل الاجتماعي. هم شبان وشابات، مسلمون ومسيحيون، يحملون لافتات صُنِعَتْ باليد. فهذه الثورة ليس وراءها الـUSAID والمانحون الذين اعتادوا تنظيم ورشات حول حقوق الإنسان والديموقراطية في فنادق الخمس نجوم. في المقابل عبّأت الدولة المتكلسة البلطجيين ومعهم خيولهم وجمالهم، فاقتحموا الميدان وبيدهم الطوب والسكاكين والعصيّ.
في كلتا الثورتين لم تغب موضوعة الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي. فكِلا النظامين من محور الاعتدال، وهذا ما أوجد هوة سحيقة بين خطابهم ومشاعر الجماهير التي رأت في اعتدالهم بطاقات خُضُراً لاستمرار المشروع الاستيطاني الإسرائيلي وحصار غزة وقمع الفلسطينيين. ويلفت بعض الكتّاب في جريدتي «الأهرام» و«الأخبار» الحكوميتين النظر، بعدما انتقدوا مبارك لاستقباله نتنياهو في 4 كانون الثاني/ يناير، في اليوم التالي لإعلان إسرائيل هدمها أربعة بيوت عربية من القدس وقصف غزة وقتل ثلاثة فلسطينيين فيها.
هكذا فإنّ رهاب إسرائيل في هاتين الثورتين له معنى، إذ لن يستمر الوضع العربي الضعيف المستجدي للدفاع عن أنظمته. وما ستؤول له الأمور هو إرجاع الدور القائد إلى مصر ودورها الوحدوي العربي، وتمكين ممثلي الشعب الفلسطيني (منظمة التحرير وحماس) من مقاومة المشروع الصهيوني. واستخدمت كلمة الكرامة كثيراً في خطاب ممثلي الثورتين. فكرامة الأمة قد أهانها هذان النظامان.

طبيعة الحركة الاجتماعية

هناك فئتان من الفاعلين في الحركة الاجتماعية: أولاً الشباب المتعلم، غير المنظَّم حزبياً، الذي تفاعل سريعاً مع نشاط الأحزاب والنقابات التي أدّت دوراً يتظلّل هذه الحركة، وأعطاها الزخم اللازم للاستمرار والتعبئة والتأطير. ثانياً، شرائح العمال، المؤطرة نقابياً أو غير المؤطرة، التي أغفلها الكثير من المحللين في محاولة واعية أو لا لطمس بعدها الطبقي. إذاً، هاتان الثورتان في تونس ومصر هما حركتان اجتماعيتان اندمج فيهما، بروعة، البعد الكلاسيكي الطبقي مع البعد المدني الجديد. بُعدان برزت فيهما أهمية الفرد ـــــ الناشط في قدرته على تطوير قدرات التبصر الذاتي، حسب ما بيّنه آلان تورين، فيستطيع الناشط أن يندمج مع بعض البنى وينفصل عن أخرى. وكانت لافتة قدرة بعض الناشطين الشباب، المنتمين إلى حركة الإخوان المسلمين، إذ تبنّوا أجندة مختلفة في الشعارات وطريقة الفعل في هذه الحركة.
لقد أشعل محمد بوعزيزي وحده فتيل الانتفاضة، وانتفض الشباب بنحو غير منظّم، لكن ما لبثت النقابات العمالية أن نظّمتها ونقلتها من مدينة إلى أخرى. لقد كان الاتحاد العام التونسي للشغل بارعاً في التعامل مع النظام: ففي شمال تونس، وخاصة في العاصمة، كان قادته يتفاوضون مع النظام، بينما في الجنوب كانوا يعارضونه. أما الاتحاد العام لطلبة تونس، وهو خليط من مجموعات مؤيدة للنظام ويسارية وإسلامية معارضة، فقد أدّى دوراً أساسياً في تعبئة طلاب الجامعة ضد النظام الزائل. أما نقابة المحامين فدورها مهمّ ورائد في توسيع التظاهرات لتشمل كل الأعمار، عوض أن تكون محصورة بالشباب فقط، وفي العاصمة تونس.
أما في مصر فقد بدأت الثورة بتحرك مجموعة شبابية هي «6 أبريل» التي نشأت بتفاعلها مع الحركة العمالية الإضرابية من المحلة الكبرى وتحوّلت عن طريق الشبكات الاجتماعية (الفايسبوك وتويتر) إلى مجموعة متعاضدة. واستطاعت هذه المجموعة، باستخدام العالم الافتراضي، تعبئة آلاف المتظاهرين من 25 كانون الثاني/ يناير، ثم رفعت الأحزاب والنقابات المصرية مستوى التعبئة حتى صح الحديث عن مسيرات مليونية في كلٍّ من القاهرة والإسكندرية والسويس، وأيضاً المنصورة ودمنهور والزقازيق... إلخ. نحن أمام ثورات يتعاظم فيها السياسي والحقوقي المدني على حساب الأيديولوجي. لقد ظنت الكثير من الأنظمة وبعض المفكرين العرب والغربيين أنّ الشارع لا يعبئه إلا الإسلام السياسي. أظهرت الحالتان التونسية والمصرية أنّ الإسلاميين هم قوة مهمة، لكنها ليست الوحيدة، ولا يمكن أن تحكم وحدها بدون تعاونها مع قوى أخرى. كذلك بيّنت أنّ قوتها الضاربة تجاوزت تبسيطية شعار «الإسلام هو الحل» لتطرح قضايا الحرية والديموقراطية كمثيلاتها من الأحزاب المعارضة.
لكن ماذا عن الجمعيّات الحقوقية والأهلية وغير الحكوميّة؟
لقد اختزل كثير من المانحين والمنظّمات الدولية مفهوم المجتمع المدني في هذه الجمعيات، وظنوا أنّهم هم الذين سيحملون رياح التغيير. وأدّت هذه الجمعيات دوراً مساعداً للنقابات والأحزاب المعارضة، وتجلّى ذلك بمواكبة منظمات حقوق الإنسان في تونس وفي الخارج الانتفاضة ونشر معلومات موثقة عن حجم الخسائر البشرية، وبتحفيز القوى العالمية الأهلية والسياسية الرسمية على أخذ مواقف حازمة من النظام. ومن هنا فإن من أهم مواصفات المجتمع المدني الحيّ تعاضد النقابات والأحزاب مع الجمعيات الأهلية. وآن الأوان للمانحين الذين يعبّئون فقط للجمعيات الأهلية أن يوزعوا دعمهم على كل هذه المؤسسات. وإلا، فإنّ تضخم الجمعيات لن يحول دون حدوث التغيير المرتجى، فحسب، بل سوف يضعف النقابات والأحزاب، إذ سيتوجه خيرة شبابها إلى العمل في قطاع الجمعيات.
إذاً، على عكس الحركات الاجتماعية التي شهدتها أوروبا الشرقية، حيث كان هناك قيادة معارضة موحدة، تشهد الحالتان التونسية والمصرية شرذمة وانفصاماً وضعف تبصر ذاتي (Reflectivity) لدى ناشطي الثورتين. وهناك منطق شباب الثورة العفويين (على طريقة الثورة الفرنسية)، الذين هم في طور التنظيم، والأحزاب السياسية التي قبلت بالتفاوض مع السلطة السياسية والبقاء في الشارع بآن واحد.
وثمة فاعل ذو أهمية قليلة لكن فعالة، هو دور الإعلام المرئي، الذي حفز الجماهير في ظل التعتيم الإعلامي الكلي في محطات التلفزة المحلية التونسية والمصرية. وفي هذا الصدد، تحوّلت قنوات الجزيرة، العربية، BBC العربية وFrance 24 إلى شاشة لنقل الصور التي جمعها الناشطون بهواتفهم النقالة، وإلى منارة لنقل آراء المعارضين للأنظمة البوليسية. أخص بالتحديد هنا قناة الجزيرة التي رفضت نموذج «عدم التدخل» في الشؤون الداخلية للأقطار العربية، لتبني نموذج «التضامن» مع الشعب المسحوق من مواجهة النظام التسلطي.

فحوى الحركة الاجتماعية

هناك علاقة وثيقة بين الخبز والحرية، فعلى الرغم من وعود بن علي ومبارك بحلّ مشكلة البطالة وتوفير الأسعار المناسبة للاحتياجات الغذائية الأساسية، فإنّ ثورة الجماهير لم تتوقف. رأى الشباب والمهنيون أنّ لقمة العيش مربوطة بحرية الصحافة، ورفع القيود عن الإنترنت، وعبّرت عن ذلك المعارضة. وتحوّلت الشبكة العنكبوتية إلى أداة معرفية وتعبوية حاسمة، صنعتها قدرات بسيطة للأفراد، والمدوّنون والجمعيات لمعرفة ماذا يحصل في تونس ومصر والتواصل مع العالم، فهم ليسوا بحاجة إلى الإعلام الرسمي المزيّف.

الداخلي والخارجي

كان هناك صمت رهيب ومريب للولايات المتحدة وفرنسا وللمجموعة الأوروبية التي دعمت بكلّ قواها الديكتاتوريات العربية، حيال ما يجري. وتجلّى الدعم بالعزف على الفزاعة البالية من أنّ استبدال هذه الأنظمة يجلب إلى الحكم الجماعات الأصولية، وأنّ هذه الديكتاتوريات هي الوحيدة القادرة على حفظ الاستقرار السياسي والمشاركة بـ«الحرب على الإرهاب». وليس المقصود غالباً بالإرهاب فقط تنظيم القاعدة، بل لكن أيضاً أي إسلام سياسي. في هذا الصدد، كان مذهلاً موقف بعض المثقفين الفرنسيين القريبين من السلطة وخاصة ألكسندر ألدر وبرنار هنري ـــــ ليفي وآلان فنكلكروت ودورهم في تخويف الرأي العام الفرنسي من الثورتين في تونس ومصر.
وهناك ثلاثة أسباب لذلك. الأول، المصالح الغربية التي تريد أنظمة ضعيفة ومرتبطة بها لحماية مصالحها ومصالح إسرائيل في المنطقة. أنجيلا ميركل، المستشارة الألمانية، هنأت الشعب على خلع مبارك وخاطبت مصر باستعلاء، وطالبتها باحترام اتفاقية كامب ديفيد وضمان أمن إسرائيل (11 شباط/ فبراير). لقد صمتت فرنسا أكثر من ثلاثة أسابيع على ما يحصل في تونس، دعماً لابنها المدلّل بن علي. وصرح فرنسوا بارو الناطق الرسمي باسم الإليزيه قبل أسبوع من هروب الرئيس (8 كانون الثاني/ يناير) بأنّ ما يحصل في تونس هو شأن داخلي. فلماذا لم يعدّوا الانتخابات في ساحل العاج أو ما يحصل في إيران أو في لبنان شأناً داخلياً؟ لقد اكتفت السلطة الفرنسية بإبداء القلق من الاستخدام المفرط للقوة عندما شعرت بأنّ نظام بن علي في طريقه إلى الأفول. وبذلك تظهر فرنسا كغيرها من الدول الغربية، وخاصة الولايات المتحدة، خوفها من الجماهير. فالكثير منهم يدعمون التغيير في الوطن العربي فقط عندما هناك ضمان لطبيعة النخبة الجديدة التي سوف تتسلم الحكم، كما حصل في العراق. السبب الثاني، هو ثقافي. يتحوّل فجأة بعض المفكرين والصحافيين الأميركيين والأوروبيين إلى منظّرين للتعددية الثقافية، معلنين أنّ الديموقراطية لا تتوافق مع الثقافة الإسلامية. ومثلما صرّح سلافوي جيجيك في مقابلة معه على قناة الجزيرة (5 شباط/ فبراير 2011) فإنّ المطلوب من الغرب موقف تضامني له بعد العالمية (Universalist). فمطلب الشعب في قهر الدولة البوليسية والدولة التسلطية هو مطلب عالمي ولا علاقة له بـ«طبيعة الثقافة الإسلامية». أما السبب الثالث فهو مصالح النخب السياسية الغربية الفاسدة التي رشتها الأنظمة الاستبدادية العربية، فكما كشفت الصحف الفرنسية في 7 شباط/ فبراير عن تقديم رجل أعمال تونسي قريب من الرئيس البائد بن علي رحلتين خاصتين (إحداهما بعد بدء الانتفاضة) لوزيرة الخارجية الفرنسية ميشيل إليو ــ ماري، دفع النظام المصري فاتورة رحلة أعياد الميلاد لرئيس الوزراء الفرنسي فرانسوا فيّون وعائلته إلى مصر.
وأخيراً، لعل هذه الانتفاضة الرائعة ليست إلا نقطة البدء بعملية ديموقراطية مليئة بالألغام. لم يعد الشعب يقنع بمعادلة الاستقرار والأمن من الديكتاتورية أو الفوضى/ خطر الإسلام المتطرف. وعلى أية حال، ينطبق على الوضع ما قاله ماو تسي تونغ: «هناك فوضى عظيمة، لا يمكن أن يكون الوضع أحسن من ذلك». وعلينا أن نتوقع ظرفاً صعباً يجتاح المنطقة وتسلم الجيش لمقدرات الحكم في كلا البلدين، لكن التغيير بعد 30 عاماً من الاستبداد يستحق ذلك. وبهذا الصدد هناك رهانان اثنان في المرحلة المقبلة. الرهان الأول يتجلى في قدرة المعارضة على توحيد صفوفها ضد الدولة البوليسية السلطوية، فيما الرّهان الثاني هو على قدرة الحركات الإسلامية، كحركة النهضة والإخوان المسلمين، في تقديم نموذج رائد في المشاركة بالحكم على الطريقة التركية. هناك أكثر من تيار يدور بين قطبي الاعتدال وقطب السلفية المحافظة. لقد بيّن المختصون في الإسلام السياسي، ومنهم فرانسوا برغا وحسام تمام، قوة القطب الأول وضعف الثاني، مما يمكن أن يعطي بعض الآمال في إمكانية ترافق موضوعة الديموقراطية مع الحريات الفردية.
ومع تحطيم أصنام الاستبداد في تونس ومصر وإحالتها إلى مزبلة التاريخ، السؤال الذي يتوارد إلى ذهن كل عربي: ماذا بعد؟ لم يعد في مقدور الأنظمة الادعاء أنّ ضرورات توفير الخبز للجميع أو ضرورات المعارك القومية الكبرى أو تحرير القدس تكون عبر التراجع عن الليبرالية السياسية المتمثلة بحق كل إنسان في التعبير عن نفسه وحقه في معرفة المعلومة من مصادر غير مراقبة من الأنظمة.
من هو النظام العربي التالي المرشح لتصله رياح التغيير؟ أغلب أنظمتنا إما ملكية/ أميرية متوارثة مع دور محدود جداً للبرلمان، أو أنظمة جمهورية استبدادية متوارثة أو في طور التوارث، حيث يبقى فيها الرئيس/ الملك إلى «الأبد». وكلنا نلاحظ في العديد من الدول العربية شعار «إلى الأبد يا...»، ولكم الحرية في ملء هذه النقاط حسب اسم الزعيم الذي ترغبون.
* أستاذ مشارك في الجامعة الأميركية في بيروت