القاهرة | ربما كان علينا أن نشكُر «الشحرورة صباح» للطرق التي فتحتها أمامنا هنا في القاهرة، لمجرد أننا من بلدها. ما إن تقول إنك من لبنان، حتى تتّسع الابتسامات، لتخرجك من خانة «الأجنبي» الذي يوحي به الشكل، إلى «يا سلام لبنان الحلوة والصبّوحة... عسل والله». وقد كنا بحاجة إلى الشحرورة، بين أسلحة أخرى، لإقناع محازبي الرئيس السابق حسني مبارك، المصابين بحالة إنكار لفساده والرافضين لتقبُّل فكرة رحيله، بالكلام. ليس عن خوف، بل لصعوبة التحدث بشؤون مصر الداخلية مع «أجانب»، وخصوصاً في المناطق الشعبية التي بدا أنها تختزن كراهية لهؤلاء، غذّاها النظام السابق، بحسب تأكيد زملاء.مدينة عامر الجديدة الشعبية نموذج للأحياء الفقيرة الكثيرة. هنا الأحياء أشبه بالمخيمات الفلسطينية في بيروت. الناس يعيشون كيفما اتفق. لحظة وصولنا إليها، كان شيخ الأزهر أحمد الطيب يتكلم على التلفزيون. جهاز صغير مشوّش الصورة بالأسود والأبيض ثُبِّت في حائط دكان معتم يبيع الخردة، يشخص إليه عجوزان. أنت في قلب المناطق الشعبية المحافظة والمتديّنة. ويكاد الإيمان هنا يوازي الوطنية.
أمر مُدهش هنا مدى تعاطف الناس مع حسني مبارك، أي مع مضطهِدهم السابق. يسمّون الحالة النفسية هذه «عقدة ستوكهولم»، أي حين تقع الضحية في غرام جلادها. المصريون عاطفيون. بعضهم لم يهن عليه «إهانة الرئيس». ولكن، كيف كانوا يطيقون الإهانة لأنفسهم؟ تحاول أن تفهم.
الحاجّة أم وحيد ليست وحدها، فزوجها، المغرم بفريد الأطرش بكى مثل زوجته حين تنحّى مبارك. «أنا مش راضية أبداً عللي حصل». تبادرنا بالكلام ما إن ندخل منزلها الذي لا تتجاوز مساحته 40 متراً مربعاً. «نفسي إتكلم. حتى لو هوّ (مبارك) غلّط. أنا زعلانة عالريس». تغرورق عيناها بالدموع وهي تضيف: «ساعة ما قال: عاوز إندفن ببلدي (تغصّ بريقها) عيّطت عليه بحرقة من قلبي. كنت عايزاه يخلِّص المدة (رئاسته). وحتى لو غلّط من هم حوله. كنا تحمّلناه كم شهر، ليطلع بكرامته، معززاً مكرّماً، مش يقلّو أدبهم عليه. واللي يقلّو ارحل يعني إمشي، واللي يقلّو يا كلب...». وتتابع وهي تمسح دموعها: «كفاية ما دخّلناش حروب، حافظ على أولادنا». ثم تقول: «ساعة ما فلسطين قالوا يفتحوا المعابر (من أجل غزة) لما قفل الحدود، بقيت البلاد كلها اللي بره زعلانة منه، إحنا كنا منقول إنه بيحافظ على جدعاننا (أولادنا)». ثم تكرر «ما دخّلش قواعد أميركية ببلدنا ولا سمح لحدّ يستعمرنا. إذا غلّط من هم حوله، هوّ في الأيام الأخيرة كان عيّان (مريض) وما كانش واعي»، لتجزم بأنه كان عليهم أن يتحمّلوه بضعة أشهر إضافية. وحين تستفزها بالقول إنه لم يكن ينوي لولا الثورة الرحيل، وإنه أراد توريث البلد لابنه جمال، تجيب: «قال مفيش توريث. وقال سأتنحّى. كان لازم وقّف هنا».
وتتذكّر كيف أنه عندما طردت ثورة يوليو الملك فاروق، «طلع لابس عسكري وبقصر المنتزه ضربوا له سلام. الريس جمال عبد الناصر طلعت بردو إشاعة إنهم سمّموه. السادات اغتالوه. يعني إحنا كده ما يبقاش فينا خير في ولاد بلدنا. نحنا أي رئيس عندنا، نهايتو كده تبقى وحشة؟ لأ. بردو الواحد بردو يفتكر الطيب زي ما يفتكر الوحش». وماذا عن التعذيب وإهانة الناس في أقسام الشرطة والنهب والفساد؟ لا تعترض، لكن «بيحطو الذنب عندو في كل حاجة. حسني مبارك ما بيمشيش ورا كل واحد في الشعب. ما حدش بيوصللو».
ثم تنطلق تحكي عن مواجعها: تأمين صحي سيئ، ابنها بحاجة الى عملية قلب مفتوح، لكن وزير الصحة حوّل المستشفى المجاني إلى «اقتصادي»، أي بسعر مخفوض، وهي لا تملك الأجرة... تسألها: كل هذا وتدافعين عن نظامه؟ «هوه عملكم إيه مبارك»؟ تجيب وقد فردت كفها لتحصي على أصابعها «جمايلو علينا». تقول «حاقولِّك عملنا إيه. كنا نعيش على لمبات الكاز. الآن الكهرباء صارت في كل بيت. كانت الواحدة تتزوج في قوضة (غرفة) مع حماتها، بسرير ودولاب (خزانة) وكنبة. دلوقت العروسة بتخش بشقة 3 غرف، ولازم التلفزيون والغسالة الأوتوماتيك وكل ده برضه من اللي عملو في البلد. إي نعم في الآخر لمّا مرض يا عيني، ابنه الله يسامحه، هوه اللي عمل ده كله. لما أدى الشركات لأحمد عز و(وزير الإعلام أنس) الفقي وصفوت الشريف، والحاشية اللي وراهم اللي بينجحوها بالكوسا (معادل للواسطة) وهوّ الريس يا عيني مش داري بأي حاجة. ولو كان داري، يبقى كان ضغط عليه».
نبيل السيد، موظف حكومي، وابن مساعد شرطة سابق. التقيناه حين كان في زيارة لخطيبته. يعترف الشاب الثلاثيني بفضل الثورة التي «كانت ناتجة من الفساد»، لافتاً إلى أن توقيت 25 كانون الثاني كان مقصوداً لأنه كان عيد الشرطة نفسها، رمز الفساد القديم. لكنه يقول «والدي كان يفرّق ما بين معاملة المجرم ورجل الشارع. لكن للأسف، كانت الشرطة تعامل رجل الشارع معاملة مهينة جداً، من دون تفريق بين الصالح والمجرم». ويضيف مستخلصاً العبر إنه عندما كان يعمل في العراق «كنتُ أرى أن المصري تُساء معاملته، لأنه كان مُهاناً في بلده»، ليخلص إلى أن مَن قام بالثورة «أيقظ فينا حبنا للوطن الذي كان خامداً منذ سنين. وأرجع المحبة والود بيننا». إذاً هو مع الثورة؟ يجيب: نعم، لكني لم أرد هذه الخاتمة لرئيس الدولة. أنا لا أقول إنه كان صحّ على طول الخط، فقد قاد (مجدّداً!) معركة القوات الجوية في حرب أكتوبر، وعمل مشاريع كثيرة، لكنه لم يحسن اختيار بطانته، فأتى برجال أعمال أمسكوا الدولة لإصلاحها، لكنهم أفسدوها للأسف. أيام عبد الناصر أو السادات كان هناك طبقة وسطى، دلوقت اتطحنت، انمسحت. يا طبقة عليا يا طبقة واطية خالص».
يقاطعه حماه: «الله يرحم عبد الناصر: أخذ من الغني وأعطى للفقير أرض وفدادين. نحن 80 مليون، لو وزعوا ملياراً واحداً على الناس الفقراء، حيسعدوا ويمشّوا أمورهم».
إلى منزل آخر. الرجل الكبير، الوالد، لا يريد أن يتكلم. يجلس إلى جانبنا برهة، لينسحب معتذراً من «الصالون» الذي تبلغ مساحته ربما مترين بثلاثة أمتار، تاركاً إيانا مع ابنته الشابة، وابنه الذي كان يعتذر طوال الوقت «الوالد لسّه مخضوض». لكن، لمَ هو «مخضوض»؟ يشرح ابنه المناصر للثورة حال الوالد: «كان متعاطفاً بسبب التضليل الإعلامي في التلفزيون الحكومي، والجرائد المصرية التي كانت تتكلم باسم الحزب الحاكم. بحكم الطيبة، وهو كمان رجل كبير مثله، لعب جماعة مبارك على الوتر الحساس عنده، فالمصري يحترم كبيره وعائلته». ويتابع: «قالوا لنا ده أبوكم وما يصحّش يتبهدل، لكن شفنا اللي اتعمل فينا خلال حكمه كمصريين، وبإخوتنا الفلسطينيين، في حدودنا». يهز برأسه بأسف. ثم تتسارع حركة يديه: «شوفي أدّ إيه إسرئيل زعلانة عليه إنو يسيب الحكم. حسبي الله ونعم الوكيل فيه، فالوالد كان مذهولاً. ما كانش بيقرا إلا الجرايد القومية، اللي هي أخبار أهرام جمهورية. لما ابتدت الصورة تتضح قُدامه، ويشوف إن نفس الجرائد غيّرت اتجاهها 180 درجة، وبدأت تنشر الحقائق، ذُهل، وزعل قوي».
ومن مدينة عامر إلى مدينة نصر. خالد، وهو بائع قطع غيار سيارات، أيضاً بكى بعد الخطاب الثاني لمبارك، لا بل كاد يطلق زوجته لأجله. بصحبة صديق له، التقيناه قرب الجسر، وانطلقنا نبحث عن مكان نجلس فيه للحديث. لكن، ما إن عثرنا على مقهى، حتى تردد خالد فجأة: «معليش أنا وأيمن (صديقه) مصريين ممكن نتكلم في الموضوع ويسمعونا بقية الزباين، بس حضرتك شكلك أجنبية... مش حيفهموا». هكذا، بقينا في السيارة. «شايفة الدنيا دي كلها هنا؟ دي كانت صحرا، بس مبارك عمّرها». يقول خالد وهو يشير إلى الأبنية الكبيرة المغبّرة والقبيحة التي يظنها جميلة. يراقب بعينيه ما أكتبه في دفتري بعدما طلب رؤية بطاقتي الصحافية. ويضيف «الزعلانين فئة كبيرة لأن مبارك أب. الشعب المصري يعرف احترام السن، والرجل خدم الدولة 60 سنة. وأصلاً، لو كان سيئاً، كان عمل زي رئيس تونس. يعني دوّر طيارتو ومشي. ثانياً: الشعب المصري ما اعترضش خلال 30 سنة ليه؟ أصلاً يعترض الشعب ليه؟ نحن الدولة الوحيدة الخالية من القواعد العسكرية الأوروبية. لو كان نصّاب، كان عمل قواعد وخد الفلوس. الأقلية قالوا حرامي. كان عمل زي دول الخليج. كل الدول العربية عملت قواعد ما عدا لبنان وسوريا. ومع ذلك، أنا مع تغيير الحكم، بس في الميعاد، مش أحسن من البهدلة اللي عايشينها؟». تسأل خالد لمَ بكى خلال الخطاب الأول لمبارك، فيجيب: «لما قال أبقى لغاية سبتمبر (أيلول) بس أعيش في مصر وأموت في ترابها، أنا بكيت، بحكم سنه، مش لأنو وحش أو حلو». لكنه متهم بالفساد! يردّ بحرارة «أنا لا رحت ولا جيت ولا شفت. أنا موافق: الحكومة فاشلة ولازم تتغير. وأنا راضي بالتأكيد عن كل التحولات». تُفاجأ بهذا التأكيد وإذا به يكمل: «لأن الرئيس هوه اللي عملها. هوّ غيّر الحكومة». لكن ذلك كان بضغط الثوار! يردّ «لأ... إنهم قلّة ولو كانوا 40 مليون! لأن الباقيين 45 مليون. إحنا أكثر». إذاً لمَ لم ينزلوا إلى الشارع؟ يجيب «كنت حارس الأولاد في البيت من الناس اللي هربت من السجون». لكن، لمَ انسحبت شرطة مبارك لتخلي مكانها للمجرمين؟ يبدو عقل مشجعي كرة القدم، مستعداً لأي مبرر «لفريقه». يرد «على قد فهمي لمّا الريّس أمر الجيش بمساعدة الداخلية، (وزير الداخلية حبيب) العادلي، زيّ كأنو زعل. فراح ساحب الشرطة. كأنو بيقول لمبارك: طب شيل الليلة. يعني خللي الجيش ينفعك»!
ثم يروي قصة يمين الطلاق: «أنا تخانقت مع مراتي في الخطاب التاني للسيد الرئيس. لما تنحّى عن الحكم كانت مراتي بتقلّي: إيه مزعلك؟ فقلتلها بتأيدي إيه؟ قالت: يتشال. وهيّ عمرا 30 سنة، أنا 44 سنة يعني واعي. قالتلي طلّقني. وأنا بالفورة وافقت. من حبي في السيد الرئيس ربنا يدّيه الصحة وطولة العمر. بس يلعن أبو (فضائية) الجزيرة». وما دخل «الجزيرة»، تسأل. «دي ما تجيش قوضة وصالة في مصر». «الجزيرة»؟ يجيب «لأ، قطر. ومع ذلك أنا مش زعلان من قطر، أنا زعلان من الجزيرة. هيَّجت الشعب. وهيّ اللي عملت تظاهرات. نفتح الجزيرة يقولوا تظاهرات مليونية، نبصّ حوالينا منلاقيش حاجة».
في المقعد الخلفي، يثور أيمن غيظاً «ده عاوز يورث ابنه البلد. هيّ عزبة؟» فيجيبه خالد «هو الاستقرار وحش؟ في مَتل عندنا بيقول: الرئيس فاسد ممكن يولّد عالم، ولو كان عالم ممكن يخلق فاسد. فالجزء القليل من الشعب بيقول: مبارك وحش. يمكن جمال يطلع كويس»! لم يعد لي علاقة، إذ احتد السجال بين خالد وأيمن. «دول نهبونا يا خالد معليش»، فيجيب الآخر: «مفيش دولة بالعالم مش منهوبة. الدول دلوقت كل واحد بيلعب لوحدو. مش (المعلق الرياضي) مدحت شلبي مبارح على قناة (مودرن) قال أمير قطر بيتفق على الغاز الطبيعي في إسرائيل؟». ثم يستفزه: «بيقولو إنو بتوع التحرير شهداء. بالنسبة لي، ليسوا كذلك: بتوع الشرطة شهداء لأنهم ماتوا أثناء عملهم». هنا، يجنّ أيمن، فالشاب الذي يحمل دبلوم تجارة ومضطر إلى العمل في أي شيء، يعرف الأساليب التي كانت تتعامل بها الشرطة: «ولما حطّوا الخشبة في دبر سواق عندنا في بولاق؟ كانوا بيعملوا إيه؟ وخالد سعيد؟ وخطفوا في الحي اتنين، وحين أراد أبوهما أن يشتكي قالوله: بلاش، علشان الباقيين. الريس مش عارف؟ ما فيش تقرير يومي؟». تحاول تهدئتهما بتغيير الحديث. تسألهم عن إسرائيل، فيقول خالد «أنا نصر الله ما بحبّوش، بس لما ضرب إسرائيل، حبّيتو». مضيفاً وقد حبكت معه عصبيّته الكروية لنادي «الزمالك»: بس لو لعبت إسرائيل مع الأهلي، حشجّع إسرائيل».



كشري الثوّار

إذا أراد البعض ربط الثورة المصرية بشيء ما على غرار الياسمين في تونس، فيمكنه وصفها بـ«ثورة الكشري». فخلال أيام الثورة، أدت محالّ بيع الكشري في وسط البلد دوراً فاعلاً في دعم الثوار. ولتلبية حاجات الآلاف، سيّرت المطاعم خدمة «الدليفري» المجانية الى ساحة الاعتصام. وإثر تزايد الأعداد، شقّت عربات الباعة المتجولين طريقها الى وسط الميدان، وباتت تشارك في المد بالكشري والفول والطعميّة وسندويشات الجبنة البلدي.
حملات النظافة التي لا تزال جارية في الشوارع منذ صباح السبت الفائت، تبرهن أن الكشري كان السلاح الأمضى والأكثر صموداً في المعركة. فقد جمع المتطوعون الملايين من العلب البلاستيكية المختلفة الأحجام التي يحفظ فيها.
أما سبب رواج هذا الطبق بالذات، فيعود الى أنه وجبة غذائية متكاملة تؤمّن الشبع لاحتوائها على عناصر غذائية مختلفة من الأرزّ والمعكرونة والعدس والحمص والبصل المقلي والبهارات. ومع غنى عناصرها، فإن سعر علبة واحدة منها لا يتعدى سبعة جنيهات.
(الأخبار)