القاهرة| «تركتُ تحويشة العمر وكل شيء، ونفذت بجلدي أنا وأولادي. كل ما يُقال عمّا يحدث في ليبيا نقطة في بحر الحقيقة». إبراهيم الفيومي، مدرِّس رياضيات سافر إلى ليبيا في عام 1995، ومنذ ذلك التاريخ، ترك مدينة بنغازي خمس مرات فقط؛ الأولى عندما أخبرته أمه أنها تريد أن تزوّجه، وأنها اختارت له عروساً من قريته، مسهلة، التابعة لمركز قطور محافظة الغربية. والثانية عندما توفي أقرب أصدقائة. وثلاث مرات بعدها لزيارة الأهل.
«لم أتصوّر يوماً أن أخرج من بنغازي هكذا كالمطاريد». يصف إبراهيم لحظة فراره وأسرته المكوَّنة من زوجتة وأبنائه الثلاثة قائلاً: «القذافي وجيش المرتزقة التابع له زرعوا الرعب في كل شبر بليبيا؛ ليلة 17 شباط، قرّرتُ الرحيل بعدما شاهدت جثث أناس طيبين أعرفهم جيداً تملأ شوارع بنغازي. لم أتحدث مع أحد من فرط الصدمة، وذهبتُ إلى منزلي عاقداً العزم على مغادرة ليبيا وعدم العودة إليها مرة أخرى».
قصّة إبراهيم واحدة من آلاف القصص التي يرويها المصريون العائدون من جحيم نظام معمر القذافي عن الرعب الذي عشّش في شوارع مدن ليبيا وطرقاتها. ربما كان الألم في قصته لا يُقارَن بقصص أخرى عانى أصحابها ويلات مطاردة المرتزقة التشاديين الذين دخلوا بنغازي، حيث قتلوا ونهبوا قبل أن يتمكن الأهالي من الانتصار عليهم وطردهم. لكنها تظل قصة مؤلمة، نظراً لأنّ البطل كان يتعامل طوال بقائه في المدينة على أنه «واحد من هذا الشعب الطيب»، على حد وصفه.
يعجّ منفذ السلوم، منذ انطلاق الثورة في ليبيا، بآلاف المصريين الذين اتهمهم القذافي بالاسم، وسمّاهم في خطابه الأشهر بتاريخ 22 شباط بأنهم يقفون وراء «الاضطرابات» التي تجتاح ليبيا، مشيراً إلى أنهم سبب خروج الأطفال والشباب إلى الشوارع من أجل التظاهر لأنهم يعطونهم «حبوب الهلوسة». وكأنّ لسان حال العقيد كان يقول «مَن وجد مصرياً على أرض ليبيا، فليقتله»، وهو ما حدث بالفعل. استشعر المصريون خطر البقاء في الجماهيرية مع بداية الثورة وظهور سيف الإسلام القذافي على شاشات التلفزيون، محمِّلاً المصريين والتونسيين والفلسطينيين مسؤولية ما يجري في البلاد، وخصوصاً أن المضايقات قد بدأت من خلال إيقاف المصريين في الشوارع، والاستيلاء على أمتعتهم الشخصية والاعتداء على البعض منهم.
ويقول عبد الرؤوف حسن، وهو عامل بناء مصري، «في الأيام الأولى للثورة، كان بعض المؤيّدين للقذافي يستوقفوننا في الشوارع، ويشتموننا، ثم يسرقون ما معنا تحت تهديد السلاح. ثم تطوّر الأمر إلى قتل عدد كبير من المصريين في طبرق وبنغازي وطرابلس. أي مصري يمتلك سيارة صادرها المرتزقة أو المؤيدون للعقيد». ويتابع سرد مآسي الجالية المصرية: «كانوا يصرخون في وجوهنا: خربتوا مصر وعاوزين تخربوا ليبيا. لكن للأمانة، الثوار أكرمونا وأحسنوا معاملتنا وساعدونا على الخروج والوصول إلى السلوم». الأرقام المعلَنة حتى الآن عن أعداد المصريين العائدين من ليبيا تتراوح ما بين 120 ألف مصري و150 ألفاً، طبقاً لإحصاءات القوات المسلحة، معظمهم من المدن التي استولى عليها الثوار. أما باقي المدن التي لا تزال في قبضة النظام، فلا أحد يعلم شيئاً عن المصريين فيها، نظراً لانقطاع الاتصال بهذه المدن. وهنا، يشير البعض إلى احتمال حدوث كارثة بحق مصريي ليبيا، في ضوء تلكّؤ وزير الخارجية المصري، أحد رجال حسني مبارك المخلصين، أحمد أبو الغيط، في الاستفسار عن مواطنيه العاملين هناك، بعكس سلوك معظم دول العالم مع رعاياها. تتكشّف مأساة الفارّين من مجازر القذافي مع معرفة أن معظمهم هناك عمّال موسميون. يتحدث أحدهم، محمد عثمان: «كنتُ أعمل بضعة أشهر خلال السنة في أحد المطاعم السياحية بمنطقة تبعد عن بنغازي نحو 200 كيلومتر»، لافتاً إلى أنه استطاع أن يتجه إلى هذه المدينة بمجرد بدء أحداث العنف. وظل ليومين فيها، حتى تمكن من اللحاق بسيارة أجرة نقلته إلى منفذ مساعد الحدودي مع مصر، كاشفاً عن وجود الكثير من المصريين بمناطق إجدابيا وسرت لا يستطيعون العودة إلى مصر لعدم وجود سيارات أجرة تنقلهم إلى الحدود المصرية، أو لعدم قدرتهم على دفع الأجرة التى زادت قيمتها أربعة أضعاف منذ بداية الأحداث. «أين وزارة الخارجية، أين مصر؟»، يسأل عثمان، وهو يكاد يبكي. منفذ السلوم الآن يشبه حدود الدول في الحرب العالمية الثانية. مخيمات العائدين مكتظة. الكثير من المصريين مصابون جراء اعتداء مرتزقة القذافي عليهم، وبعضهم يمتنع عن الكلام من هول ما رآه وعاشه طوال ساعات الرعب.