تسرّبت أنباء خلال الحرب اليمنيّة السادسة ضد الجماعة الحوثيّة في صعدة تقول إن «تنظيم القاعدة يشارك في القتال الى جانب قوات الجيش الرسمي». وأكد زعماء قبليون أن السعودية تطوعت لتمويل العملية. ونقل هؤلاء الزعماء عن أوساط رسمية قولها إن صنعاء والرياض و«القاعدة» التقت عند هدف واحد هو القضاء على الحوثيين الشيعة.
مرت هذه التسريبات على حين غفلة ولم يتنبّه لها أحد في غمرة الحرب، التي دامت طيلة النصف الثاني من سنة 2009، وانتهت بخسارة عسكرية وسياسية لليمن والسعودية، فيما ثبتت الجماعة الحوثية أقدامها ميدانياً ووسّعت من رقعة انتشارها الجغرافي، وخرجت من المواجهة أكثر قوة من الناحيتين السياسية والعسكرية.
واللافت أنه في الوقت الذي قررت فيه الرياض وصنعاء وقف العمليات العسكرية، استمرت «القاعدة» في حربها ضد الحوثيين، وتبنّت في نهاية العام الماضي عمليتين انتحاريتين استهدفتا تجمعات شعبية للاحتفال بمناسبة شيعية (يوم الغدير)، وأشاعت بأنها تمكّنت في إحدى هاتين العمليتين من قتل المرجع الأعلى للحوثيّين الشيخ بدر الدين الحوثي، الذي أعلن نجله عبد الملك رحيله في صورة وفاة طبيعية بسبب عامل التقدم في السن، وذلك في نهاية تشرين الثاني الماضي.
ما كادت المدافع تصمت على جبهة صعدة حتى كان النظام اليمني في نهاية سنة 2009 يحشد عسكرياً في الجنوب لمواجهة وضع لا يقل خطورة، بعدما تنامت قوة الحراك الجنوبي الوطني السلمي المطالب بفك الارتباط والعودة الى دولتي الشمال والجنوب قبل قيام الوحدة سنة 1990. وفي هذا الوقت بالذات عاد الحديث عن دور «القاعدة» مجدداً، لكن على نحو مختلف، إذ برر النظام تركيزه في الجنوب من منطلق أنه آخذ في التحول إلى بؤرة جديدة للقاعدة، من شأنها أن تهدد الأمن العالمي.
تزامنت مع ذلك مواجهات في مأرب مع «القاعدة» على خلفية الحملة التي شنها النظام في نهاية سنة 2009 وبداية سنة 2010 ضد هذا التنظيم. وجاءت تلك الحملة بعد المحاولة الفاشلة التي قام بها الشاب النيجيري عمر الفاروق لتفجير طائرة ركاب مدنية أميركية متوجهة من أمستردام الى ديترويت صباح ليلة عيد الميلاد. وتبيّن من التحقيقات أنه تدرّب في اليمن، وتلقى تعليماته من الشيخ الأميركي ـــــ اليمني أنور العولقي المتحصن في حمى قبيلته (العوالق) في محافظة شبوة الجنوبية.
حملة النظام اليمني على الجنوب في هذه الفترة كانت ذات شقين، إعلامية وأمنية. وركزت صنعاء في الإعلام على أنها شريك في الحرب الدولية لمواجهة «القاعدة»، التي تحدثت الأجهزة الغربية عن أنها شرعت في نقل ثقلها من باكستان الى اليمن، وتصرفت الإدارة الأميركية على أساس قطع الطريق على تحويل جنوب اليمن إلى موطن جديد لـ«القاعدة»، وسارعت الى نجدة النظام اليمني بالوسائل العسكرية والاقتصادية، ومن ذلك تزويد صنعاء بخبرات وتقنيات أمنية جديدة، وتنظيم مؤتمر في لندن في كانون الثاني من السنة الماضية لدعم اليمن اقتصادياً، لكي يقف على قدميه في مواجهة «القاعدة». وضغط الأميركيون على صالح في هذه الفترة لوقف الحرب في صعدة، والتفرغ لمواجهة التنظيم الجهادي.
ورغم أن واشنطن أهّلت قوة يمنية خاصة بقيادة نجل الرئيس اليمني ووريثه، أحمد، لمحاربة «القاعدة» في اليمن، إلا أن العمليات العسكرية الكبيرة قامت بها القوات الأميركية، وهذا ما كشفته إحدى برقيات ويكيليكس، التي جاء في إحداها أن الرئيس اليمني علي عبد الله صالح قال لنائب مستشار الأمن القومي الأميركي جان برينان «منحتكم باباً مفتوحاً في شأن الإرهاب، ومن ثم لست مسؤولاً». وفي برقية ثانية، يؤكد صالح للجنرال ديفيد بترايوس، قائد القيادة المركزية الأميركية، «سنواصل القول إن هذه القنابل قنابلنا وليست قنابلكم». وبذلك اعترف صالح بتضليل شعبه عندما قال إن الهجمات الصاروخية الأميركية، في كانون الأول 2009، كانت من فعل القوات اليمنية.
ورغم التعاون بين الطرفين الأميركي واليمني، فإن النتائج الميدانية كانت متواضعة، ولم تؤدّ الضربات العسكرية الى تصفية أحد من زعماء «القاعدة»، التي أعلنت في هذه الفترة دمج فرعيها اليمني والسعودي تحت إمرة الحارس السابق لأسامة بن لادن اليمني، ناصر الوحيشي.
وطُرح أكثر من سؤال عن فشل العمليات في تصفية المطلوب الرقم واحد، الشيخ العولقي، الذي حاز لقب «بن لادن الإنترنت». وظلت الإجابة الرئيسية تدور حول استفادة «القاعدة» من علاقته مع الجهاز اليمني الرسمي، وخصوصاً أمن الرئاسة، الذي أدار العلاقة معه خلال العقد الأخير على أساس تعايش الطرفين على أرضية أن التنظيم «لن يستهدف النظام، مقابل أن يغضّ الطرف عن أعماله ضد المصالح الأجنبية».
والأمر المهم هنا هو التقاطع الكبير بين أمن الرئاسة و«القاعدة»، فقد تولى مسؤوليات قيادية فيها العديد من ضباط الحرس الرئاسي، مثل أبو علي الحارثي، الذي يعدّ المدبر الأساسي لتفجير المدمرة الأميركية «يو اس اس كول» في ميناء عدن في تشرين الأول سنة 2000، وفواز الربيعي المدبر لتفجير ناقلة النفط الفرنسية «ليمبورغ» في ميناء المكلا في تشرين الأول سنة 2002.
في السنة الماضية، بدت المعادلة بين النظام اليمني و«القاعدة» أنها آخذة في التغيّر، وأن الرئيس صالح رضخ كلياً للضغوط الأميركية. وكان الأميركيون ينتظرون نتائج ملموسة في الحرب ضد «القاعدة»، أقلها الحصول على رأس العولقي، الذي اضطر الرئيس باراك أوباما إلى أن يتجاوز الدستور الأميركي ويصدر أمراً بتصفيته جسدياً، وهو الأمر الذي لقي معارضة لكون العولقي يحمل الجنسية الأميركية. إلا أن واشنطن خرجت من الحملة كلها من دون أن تحرز نصراً، حتى ولو على المستوى الرمزي، والسبب هو أن «القاعدة» لا تزال جزءاً من نسيج نظام الحكم اليمني المعقد والمتشابك.
كانت دورة خليجي عشرين الرياضية في تشرين الثاني الماضي اختباراً لتأثير «القاعدة» في الجنوب. وراقب الأميركيون الأمر جيداً، ولكن حين مرت الألعاب الرياضية من دون عمليات تخريب من طرف «القاعدة» طرحوا على أنفسهم السؤال، ووجدوا الإجابة في أن «القاعدة» كانت في إجازة من جانب الرئيس صالح شخصياً، فأخذوا يغيّرون موقفهم منه، إلى حد تحريض المعارضة عليه في صورة صريحة، وتجلّى ذلك في الاجتماعات التي عقدتها وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون مع أطراف من المعارضة في السفارة الأميركية في صنعاء في الثاني عشر من كانون الثاني الماضي، وبحثت خلالها مرحلة ما بعد علي عبد الله صالح.
عودة «القاعدة» الى العمل من جديد في الأيام الأخيرة ضد ضباط الأمن في مأرب وأبين وحضرموت، هي عبارة عن محاولة من جانب صالح لإشعار واشنطن بأن الخطر الإرهابي على الأبواب، وعليها أن تهب لنجدته من الحصار الشعبي، لكن المؤشرت الأميركية توحي بأن الإدارة باتت تعرف أن «القاعدة» كانت في إجازة وعادت إلى العمل.
ورقة «القاعدة» لا تبدو ذات قيمة استثنائيّة في هذه الفترة، وذلك لأكثر من سبب. الأول هو أن الموقف العام تطور في اتجاه جعل من عمليات «القاعدة» تبدو نشازاً، وخارجة عن سياق الحراك السياسي العام الذي يرفع شعار إسقاط النظام. والثاني أن واشنطن بدأت تدرك أن صالح ليس الشخص الذي يعوّل عليه لمحاربة التنظيم الدولي، وصدرت مقالات في الصحافة الأميركية تتحدث عن عبثية الاستمرار في النهج الأميركي القائم على دعم صالح لدوره في محاربة الإرهاب. وسخرت الكاتبة الأميركية آلن نكماير في العدد الأخير من مجلة «فورين بوليسي» من الدور المسند لصالح، ورأت أنه المسؤول عن وصول اليمن الى الوضع المزري الذي هو عليه. وقالت إن المراقبين الغربيين يخلطون بين مفهومين: الحكم والبقاء في السلطة، مشيرة الى أن صالح تمكن من الاحتفاظ بالسلطة، لكنه عمل القليل جداً من أجل الحفاظ على البلد وسلامته، فهو بلد ينهار اليوم أكثر من أي وقت مضى. والسبب الثالث هو أن الاوساط الغربية التي صدقت لزمن طويل أن بديل الرئيسين التونسي والمصري زين العابدين بن علي وحسني ومبارك سيكون قوى إسلامية متطرفة، بدأت تراجع موقفها وهي ترى أن دور «القاعدة» والقوى الأصولية داخل الحراك الشعبي اليمني ليس بذي أهمية، وأن انهيار نظام صالح لن يترتّب عليه فلتان تنظيم «القاعدة»، بل على العكس، إذ إن «القاعدة» لن تجد لها مساحة تلعب عليها مثلما كان الأمر في السابق.