تونس| بعد «سقوط محمد الغنوشي» وحسم أمر انتخابات مجلس تأسيسي في تموز المقبل، تمكّنت الانتفاضة الثانية للشباب التونسي من نزع حزب التجمع الدستوري الديموقراطي، أي الحزب الحاكم في عهد الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، عن الخارطة السياسية التونسية. القرار القضائي تلى إلغاء «إدارة أمن الدولة»، وإنهاء كل أشكال ما يعرف بـ «البوليس السياسي»، وتغيير وظائف جهاز أمن الدولة بما «يخدم الانتقال الديموقراطي الذي من شأنه أن يحقق نتائج الثورة»، بحسب بيان وزارة الداخلية.
وجاء «سقوط التجمع» من أعلى هرم المعادلة السياسية ليسدل الستار على حزب كان يعدّ «العقل المدبر» و«المشرّع» و«المنفذ» و«القاضي» في تونس، بل أكثر من ذلك، كان قد تحول إلى أداة استعملها «الدكتاتور المستنير» الحبيب بورقيبة منذ ثلاثينيات القرن الماضي حتى تاريخ سقوطه عن طريق «انقلاب طبي» في 7 تشرين الثاني عام 1987، ليتحول الحزب إلى أداة ابتزاز في يد «دكتاتور الظلام»، أو كما يصفه بعض من عامة الشعب، بـ«الزلاط» (الهراوة).

تأسس التجمع الدستوري الديموقراطي عام 1920، بعدما بلغت حركة الكفاح الوطني ضد المستعمر الفرنسي أوجها. قاد المقاومة السياسية ومثّلها طوال 14 عاماً، تحت اسم الحزب الحر الدستوري الذي أسسه أحد أعلام جامع الزيتونة المعمور عبد العزيز الثعالبي، إضافةً إلى مجموعة من الزيتونيّين الذين كوّنوا أول نواة له عام 1919، ليرى النور بعد عام من ذلك، بعدما طالب الحزب الحر بتحقيق المساواة في الحقوق السياسية والمدنية والاقتصادية بين التونسيين والمستعمرين الفرنسيين، إلى أن بات يمثّل خطراً على سلطة الحماية الفرنسية، فاعتُقل مناضلوه وأُبعدوا في المنافي.

إلا أن هذا الحزب كان ينشط بـ «أساليب قديمة لم تواكب العصر»، ما دفع مجموعة من الشباب التونسي، الذين درسوا في فرنسا، إلى الانشقاق عنه وتأسيس الحزب الحر الدستوري الجديد برئاسة الحبيب بورقيبة، خلال مؤتمر نُظّم في مدينة قصر هلال عام 1934. الأخير أخذ على عاتقه المقاومة السياسية ضد المستعمر، والدفاع عن حقوق التونسيين المدنية والسياسية، إضافةً إلى العمل مع المنظمات النقابية التي أُسست في ثلاثينيات القرن الماضي للدفاع عن حقوق العمال التونسيين. كذلك، وضع الحزب ضمن أولوياته إنشاء برلمان تونسي.

مطالب مثّلت ثقلاً سياسياً شعبياً للحزب الجديد، الذي نظم تظاهرات في 9 نيسان عام 1938، حيث سقط الكثير من الشهداء. وكانت النتيجة إبعاد بورقيبة إلى خارج تونس بعدما قضى فترة في السجن.

هذا الحزب الذي استأثر بورقيبة بزعامته، حافظ على قواعده إلى أن أعلنت اتفاقية الاستقلال الداخلي عام 1955، ليشهد انشقاقاً بين اتجاهين: الأول بورقيبي دافع عن سياسة المراحل لتحقيق الاستقلال التام، الذي لم يكن يستهوي الحركة اليوسفية (أتباع صالح بن يوسف الذي أعلن الانشقاق عن بورقيبة) المتأثرة بالقومية العربية (الاتجاه الثاني)، التي أيدت تمسك تونس باستقلالها التام وعدم الاكتفاء بالاستقلال الداخلي. وكان ذلك منطلقاً لصراع داخل الحزب، انتهى بمقتل بن يوسف في ألمانيا بعد خطة اغتيال دبّرها بورقيبة، الذي أدرك أن اليوسفيين يمثّلون تهديداً لزعامته.

كان للصراع اليوسفي ـــــ البورقيبي طبيعة دموية. واختار بورقيبة في ذلك الوقت طريق التصفية الجسدية لمناهضيه من مناضلي الحزب، متآمراً مع قدماء «الفلاقة» (المقاومة المسلحة للمستعمر الفرنسي)، الذين أمسكوا بالأجهزة الأمنية السرية وأنشأوا ما يعرف بحركة «سباط الدم» الخاضعة لأمرة بورقيبة. وأعلن الأخير عام 1964 تغيير اسم الحزب، وحوّله إلى الحزب الاشتراكي الدستوري، بعدما تبنّى نهج التنمية الاشتراكي، الذي تخلى عنه بورقيبة عام 1969، بعد أحداث شهدتها تونس عام 1968، تمثلت في تنظيم حركات يسارية العمل السياسي في الجامعات التونسية، وخصوصاً حركة «البرسبكتفيين» (الآفاق)، والحركات القومية الأخرى كالبعث والقوميين الناصريين، إضافةً إلى عدم تقبّل الشعب فكرة الاشتراكية في الملكية التي طرحها الحزب.

لعلّ هذه الهزة الأولى التي اعترضت الحزب وبورقيبة كان لها صدى كبير، بعدما أكد بورقيبة بصريح العبارة «وجوب أن تكون رئاسته لتونس لمدى الحياة»، مكرساً بذلك دكتاتورية سياسية صبغت عقد السبعينيات، وصولاً إلى عام 1978. وقتها، عاشت تونس على وقع أحداث 26 كانون الأول بعد سلسلة من الإضرابات التي نفذها الاتحاد العام التونسي للشغل للتنديد بسياسة الدولة ـــــ الحزب تجاه الشعب، التي راح ضحيتها الكثير من المواطنين التونسيين، وجعلت بورقيبة يخفض من سقف استبداده بالحياة السياسية للحزب الواحد، ويوافق على فكرة تأسيس حزب سمي «حركة الديموقراطيين الاشتراكيين».

ظل الحزب الاشتراكي الدستوري رغم ذلك اللاعب الأول والوحيد في الحياة السياسية في تونس، حتى بعدما قرر بورقيبة فتح أبواب التعددية وتأسيس الحزب الشيوعي التونسي وحزب الوحدة الشعبية، وإجراء أول انتخابات برلمانية صورية عام 1981، إلى تاريخ 27 شباط عام 1988، عندما جرى تغيير اسمه من جديد إلى التجمع الدستوري الديموقراطي بعد انقلاب بن علي واختيار القطع مع الماضي البورقيبي إلى فترة قمع أخرى واستبداد أقوى.