حين بكى رئيس الوزراء اللبناني السابق، فؤاد السنيورة، أمام وزراء الخارجية العرب الذين اجتمعوا في بيروت في الأسبوع الأخير من عدوان تموز 2006، جاء ردّ تل أبيب عليه مزيجاً من القسوة السياسية والتهكّم. دعت تسيبي ليفني، وزيرة الخارجية الإسرائيلية آنذاك، السنيورة إلى كفكفة دموعه و»التحرّك من أجل إيجاد حياة أفضل للمدنيين الذين يبكيهم» معتبرةً أن «مستقبل المنطقة يعتمد في المقام الأول عليه وعلى القرارات التي سيتخذها».
ما لم تشأ ليفني التصريح به – لأسباب مفهومة – هو الموقف الإسرائيلي غير المعلن من السنيورة. موقف تكشف وثائق «ويكيليكس» أن الإفصاح عنه كان مقتصراً على الجلسات المغلقة، حيث الحديث عن شراكة موضوعية – بنظر تل أبيب – مع رئيس الوزراء اللبناني في مواجهة حزب اللّه، يمكن أن يمرّ دون ارتدادات سلبية على السنيورة. شراكة لا تستند فقط إلى وجود «مصالح مشتركة» تجعل من دعم حكومة السنيورة وقوى الرابع عشر من آذار سياسة رسمية لإسرائيل وترى في محاولة إسقاطها تهديداً لها، بل أيضاً إلى مشاعر إيجابية – تصل حد «الحب» – يكنّها قادة تل أبيب حيال الرجل.
«الفَلْفَشَة» في البرقيات الصادرة عن السفارة الأميركية في تل أبيب تبيّن حيّزاً مهمّاً حجزه السنيورة في المداولات التي أجراها المسؤولون الإسرائيليون مع زملائهم الأميركيين ضمن إطار التنسيق المشترك في إدارة الحرب والمرحلة التي تلتها. تنسيق بدأ منذ اليوم الأول للحرب مع إبلاغ السفير الأميركي في تل أبيب، ريتشارد جونز، وزير السياحة الإسرائيلي، إسحاق هرتسوغ، ضرورة أن «يتركز الرد الإسرائيلي على حزب الله لا على الحكومة اللبنانية». وردّاً على تساؤل هرتسوغ «عمّا يمكن أن تجنيه إسرائيل من هذه المقاربة»، أوضح جونز أنّ «مهاجمة الحكومة والبنية التحتية اللبنانيّتين يمكن أن تصعّد الدعم الشعبي اللبناني لحزب الله وتقلص دعم المجتمع الدولي لإسرائيل» (الوثيقة رقم 06TELAVIV2787).
طلب جونز، كما توضح الوثيقة رقم 06TELAVIV2788، كان يستند إلى معلومات تفيد بأن «الحكومة اللبنانية ستعقد اجتماعاً في اليوم نفسه، وأنّ رئيسها، فؤاد السنيورة، سيدلي بتصريح ينتقد فيه عمليات حزب الله». وبناءً على ذلك، عاد السفير الأميركي وشدّد أمام رئيسة الكنيست، داليا إيتسيك، أن «من المهم أن لا تتّخذ إسرائيل خطوات تجعل من الصعب على السنيورة استجماع الدعم لتصريح قوي يضع حزب الله تحت الضغط».
ما لم يكشف عنه جونز بشأن استراتيجية السنيورة، تكفّل به مستشار وزيرة الخارجية الأميركية، فيليب زيليكو، الذي عقد في 29 تموز اجتماعاً تنسيقياً مع رئيس الدائرة السياسية الأمنية في وزارة الدفاع الإسرائيلي، عاموس غلعاد. وبحسب الوثيقة رقم 06TELAVIV2961 فإن زيليكو، في سياق مطالعة قدّمها لمحاوره الإسرائيلي حول القوة الدولية المُزمع نشرها في لبنان بعد انتهاء الحرب، قال إن «فؤاد السنيورة راجع الوثائق (المتعلقة بتشكيل القوة الدولية) ولديه استراتيجية هي نزع ذريعة حزب الله في السياسة اللبنانية الداخلية وعزله سياسياً».
قادة تل أبيب – على ما تظهره الوثائق – لم يُحوِجوا حلفاءهم الأميركيين إلى التشدد في التوصية بالسنيورة. فوفقاً لوزيرة الخارجية الإسرائيلية تسيبي ليفني (وثيقة تنشرها «الأخبار لاحقاً)، كانت «الحكومة الإسرائيلية تدرك أن الحكومة اللبنانية تمثّل إنجازاً بالنسبة للمجتمع الدولي، وهي تعتقد أن حكومة السنيورة هي خطوة في اتجاه مستقبل أفضل للبنان. ولذلك ميّزت الحكومة الإسرائيلية بين الحكومة اللبنانية وحزب الله وركزت هجماتها على حزب الله».
لكن ليفني، التي كانت تتحدث إلى ممثلي البعثات الدبلوماسية الأجنبية في إسرائيل في السابع من آب، شددت على ضرورة تطبيق قرار مجلس الأمن رقم 1559، مشيرة إلى أن «الحكومة الإسرائيلية تقرّ بضعف حكومة السنيورة» لافتة إلى «حاجة المجتمع الدولي إلى قواعد للتعامل مع حالات مماثلة للحالة الراهنة». وإذ رأت أن «الضغط الخارجي يمكن أن يساعد الآخرين على اتخاذ قرارات غير شعبية»، اعتبرت أنّ «المجتمع الدولي يمكنه أن يساعد السنيورة على أفضل وجه عبر اتخاذ قرارات من دون انتظار موافقته بحيث لا يكون بمقدوره المزيد من التسويف».
ويتضح أن «ضعف» السنيورة كان النقطة التي خابت عندها ظنون الإسرائيليين به. فهذا الضعف، بحسب شكوى ليفني لعضو الكونغرس الأميركي، روبرت فيكسلر، (الوثيقة رقم 06TELAVIV2950) «يأتي على حساب إسرائيل». وفي اجتماع آخر مع عضو الكونغرس توم لانتوس (الوثيقة رقم 06TELAVIV3433)، رأت ليفني أن «بعض الضغط الخارجي قد يساعد السنيورة لفعل الأمر الصائب». أضافت «ندرك أن السنيورة ضعيف. نحن كذلك (الحكومة الإسرائيلية)، ومن المستحيل بالنسبة لنا أن نقدّم مبادرات حسن نيه له في الوقت الراهن، إلا أن هناك جملة أمور يمكنه القيام بها لدفع الوضع قدماً».
النغمة نفسها عزفها رئيس الوزراء الإسرائيلي في حينه، إيهود أولمرت، أمام لانتوس (الوثيقة نفسها). إلا أنّ أولمرت كان أكثر وجدانيةً في التعبير عن الموقف السياسي قائلاً: «أنا أحبّ رئيس الوزراء اللبناني، فؤاد السنيورة، وسأكون سعيداً بلقائه في أي وقت». تضيف الوثيقة أن «أولمرت أوضح أنه يتفهّم ضعف حكومة السنيورة ويدرك أن هذا الضعف هو ما يحول دون وضع يدها على الجنديّين الإسرائيليين الأسيريْن للتفاوض معها على إطلاق سراحهما»، ثم يقول «ثقوا بي. أنا أعرف كل شيء عن الضعف الحكومي. أتمنى لو أن بعض من يطلبون منّي دائماً المساعدة على تقوية رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، أو السنيورة، يدركون مدى ضعفي».
غير أن الوضعية السياسية للسنيورة في موازين القوى الداخلية لم تحل دون تغيير تل أبيب نظرتها إليه. هذا، على الأقل، ما أكده المدير العام لوزارة الدفاع في لقاء مع السفير الأميركي، ريتشارد جونز، بتاريخ 24 آب. قال أشكينازي (الوثيقة رقم 06TELAVIV3440): «إن رئيس الحكومة اللبنانية، فؤاد السنيورة، يتشارك مع إسرائيل المصالح نفسها، أكثر مما يمكن الآخرين أن يدركوه». أشكينازي، الذي أشار إلى أنه أمضى شخصياً سنوات في جنوب لبنان، شدّد على ضرورة أن تساعد إسرائيل السنيورة «لأن أي شخص آخر لا يمكنه أن يأخذ لبنان في الاتجاه الصحيح».
وفي اجتماع مع مساعد الرئيس الأميركي لشؤون الأمن الداخلي ومكافحة الإرهاب، فرانس فراغوس تاونسند (الوثيقة 06TELAVIV4605)، عاود أشكينازي تأكيد موقف تل أبيب من حكومة السنيورة، موضحاً أنّ «سياسة إسرائيل هي تعزيز السنيورة وقوى 14 آذار من أجل تمكينهم من الوقوف في مواجهة حزب الله».
موقف كانت ليفني قد سبقت إليه في اجتماع مع رئيس لجنة الاستخبارات في الكونغرس، بيتر هوكسترا (الوثيقة 06TELAVIV2950)، حين أشارت إلى أنه «لا خلافات حدودية ولا سوء فهم بين إسرائيل ولبنان، فكلا البلدين يتشاركان الهدف نفسه وهو نزع سلاح حزب الله والسماح للبنان بممارسة كامل سيادته».
وعن كيفية الوصول إلى هذا الهدف، يشرح رئيس الموساد، مئير داغان، تصوّره لهوكسترا (الوثيقة 06TELAVIV2879) قائلاً: «إن الجهات التي تعمل لمصلحة لبنان تسعى إلى توحيد المسيحيين حول البطريرك نصر الله صفير، و(توحيد) الدروز حول وليد جنبلاط، والسنّة حول رئيس الوزراء فؤاد السنيورة والنائب سعد الحريري، وتقسيم الشيعة بحيث يكون جزء مهمّ منهم معارضاً بحزم لحزب الله». ولا يُغفل داغان، بحسب الوثيقة، أن يسجّل تفاؤله بشأن مستقبل لبنان «إذا تمّ نزع سلاح حزب الله».
وعلى نحوٍ مُكمِّل، تظهر الوثائق أنّ رأي داغان موضع تَبَنٍّ من شعبة الاستخبارات العسكرية «أمان». فضبّاط الشعبة، الذين انتُدبوا ليقدّموا عرضاً مفصّلاً عن نتائج الحرب أمام وفد من أعضاء لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي، يصفون السنيورة بأنه «مساند جدّاً ومدرك لأهمية التدخّل الدولي في لبنان» (وثيقة تنشرها «الأخبار» لاحقاً). يضيفون: «السنيورة يفعل ما باستطاعته لدعم جهود المجتمع الدولي لتثبيت الوضع في لبنان وتغييره في الاتجاه الإيجابي».
وفي عرض آخر يتناول وضع الأمن الإقليمي والتهديدات التي تواجهها إسرائيل، يرى هؤلاء (الوثيقة 06TELAVIV4892) أن «حزب اللّه لا يزال (في أعقاب الحرب) فاعلاً ويعيد بسرعة بناء قدراته العسكريّة بمساعدة كلّ من سوريا وإيران. والخطر في الوقت الراهن هو أنّ حزب اللّه قد ينجح في رهانه السياسي لإسقاط حكومة رئيس الوزراء اللبناني السنيورة المعتدلة».